"الإطار التنسيقي يطرح شرط التديّن في رئيس الوزراء المقبل، حتى وإن لم يكن إسلاميًا، إضافةً إلى ضرورة أن يكون أحد مقارعي النظام السابق، وهذا ما سيعني أن هناك شخصيات جديدة كثيرة قد تظهر للساحة وفق هذه الشروط". عزت الشابندر في لقاءه على شاشة العراقية.
حتى هذه اللحظة يصر الإسلاميون على تدين المرشح لمنصب رئاسة الوزراء. ومن النادر أن تعثر وسط هذا الجنون على عبارات، حتى لو كانت إيحائية على الأقل، تشير إلى الدولة، اللهم إلّا من باب المزايدة على الخصوم، والدخول في مناكدات عقيمة نتيجة للصراع المحموم على المناصب والنفوذ وتقسيم الثروة بين المتحاصصين.
يمكن القول واعتمادًا على السلوك السياسي للإسلاميين أن صفة التديّن في شخصية المرشح لرئاسة الوزراء تجبّ ما قبلها
وفي كل فترة انتخابية لأحد رؤساء وزراء التسوية نسمع هذه العبارة بمضامين مختلفة "هيبة الدولة"، والمقصود هنا ليست الدولة ومؤسساتها بالطبع، بل كل ما في الأمر على رئيس الوزراء، إن لم يبقَ وفيًا على طول الخط مع زمرة المتحاصصين، سيظهر كما لو أنه أحد الأسباب الجوهرية لفشل العراقيين ببناء دولتهم الحديثة.
اقرأ/ي أيضًا: التَسَلُّل من القصر إلى المعبد
لكن لو كان مرشح التسوية "متدينًا"، مثل رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، فعلى الأرجح سيكون الحمل الوديع الذي لم يفهمه هذا الشعب حق فهمه، ولو فهموه لأكل العراقيون من تحت أرجلهم، حتى لو كان متورطًا بدماء المئات من أرواح الشباب المحتجين. ألم يكن متدينًا؟ فهذا يكفي لبناء الدولة.
يمكن القول واعتمادًا على السلوك السياسي للإسلاميين، أن صفة التديّن في شخصية المرشح لرئاسة الوزراء تجبّ ما قبلها. كل السمات التي مَيَّزَت المُرَشَحين لمنصب رئاسة الوزراء، بداية من إبراهيم الجعفري، ومرورًا بنوري المالكي، ووصولًا لحيدر العبادي، ونهاية بعادل عبد المهدي، هي سمات التدين والحق يقال.
بحيث لا تعثر على برنامج لدى هؤلاء يخالف توجهاتهم الدينية! بالطبع ستسمع الكثير من القصص والأساطير التي يحوكها المقربون لهؤلاء، من قبيل "أراد أن يعمل لكن لم يدعوه وشأنه". وهذه العبارة، لو كانوا يعلمون، توّضح بشكل لافت أن مرشح رئاسة الوزراء لا يهتم إن لم يفسحوا له المجال للعمل والبناء، فالمهم أن يبقى على كرسي السلطة التنفيذية وهذا يكفي، بل يكفي أن يكون متدينًا طبقًا لأدبيات الجماعات الإسلامية.
فلو كان مُلحدًا، لا سمح الله، سيكثر السرّاق، والفاسدون، وسنسمع بهدر المال العام وفشل المشاريع الإنمائية. ولذلك تم تنصيب الجعفري، مثلاً، لأنه مستوفٍ لشروط المرشح لرئاسة الوزراء. وحتى لو كان الرجل فاشلاً ولم نفهم منه شيئاً على الإطلاق، إلَا أن شَرطَي التدين و"مقارعة" النظام السابق، حتى لو لم يحدث ذلك، كافيان لتنصيبه رئيساً للحكومة التنفيذية.
وقد جرّبنا في هذه السنين العجاف معنى أن يكون مُرَشّحًَا لرئاسة الوزراء متدينًا ومقارعًا للنظام السابق، حين سقطت ثلاث محافظات، وانتشر الفساد والرشا وهدر المال مثلما ينتشر الفطر، وتعطلت الكثير من المشاريع، وتأخر تشكيل الحكومة في وقتها قرابة تسعة أشهر، و دفع العراقيون بسبب كل تلك المشاكل ثمنًا باهظًا.
أما المتديّن الثالث "المقارع" للنظام السابق عادل عبد المهدي فهو مُحصَّن بتعويذة هذين الشرطين. حتى لو تم اغتيال، وجرح، واعتقال، واختطاف عشرات الشباب في انتفاضة تشرين في حكومة هذا الرجل المتديّن، وحاشيته المتدينة، والمقاتلين المتدينين الذين كانوا تحت أمرته. فحياته أقدس من كل الذين سقطوا، إذ يكفي أنه يحمل الشرطَين أعلاه، وعلاوة على ذلك يحمل شرطًا ثالثًا ربما يتفوّق على هذين الشرطين، وأعني به الجنسية الفرنسية! فمن هذه الناحية هو متدين "ومقارع" للنظام السابق وفرنسي الجنسية.
لا يخفى أن شرط التديّن هو مكيدة مكشوفة للتنظيمات الإسلامية لاستمالة عواطف الناس الدينية، بل تكاد تكون مضحكة ومثيرة للشفقة. فضلًا عن الصفة الثانية التي تشترط "مقارعة" النظام السابق. ونحن نعلم أن الشروط الواقعية لرئيس السلطة التنفيذية تقتضي من "السياسيين" البحث عن شخص يتحلى بالإدارة والحنكة والذكاء اللازم لإدارة الملفات الحساسة وغيرها. وأن يكون الاختيار ووضع الشروط ضمن الأسس الديمقراطية. ولو كانوا سياسيين حقًا لجنبونا الكتابة عن البديهيات! غير أنهم لا يتعدون صفة المُسَيَّسِين.
لكن وبما أن القوم مصرّين على فكرة التوافق و"الكتلة الأكبر" التي تُعتَبَرُ خرق سافر لمعايير الديمقراطية، والتجاهل التام لمفهوم الأغلبية، فيبقى شرط التدين ومقارعة النظام هما الشرط المسبق على كل عملية ديمقراطية. ولنا أن نعرف لماذا تضيق الحياة في العراق، وتنعدم الأسس الطبيعية للعيش الرغيد، وتتفاقم المعاناة يومًا بعد يوم، بل يتضاعف منسوبها بعد كل جولة انتخابية تنقبض فيها أرواح العراقيين.
المصيبة ليست في التدين بذاته، بل المصيبة حين يتحول التدين إلى لافتة انتخابية وشرط مسبق على الديمقراطية، وأن لا تفهم من هذه الكائنات المُسَيَّسَة سوى تحطيم الحياة وإحالتها إلى كابوس مطبق تحت يافطة التدين ومقارعة النظام السابق.
اقرأ/ي أيضًا:
التلوّث النفسي في بيئة الإسلام السياسي
عن الاستعمار والاستقلال.. محاولة لفكّ الالتباس