تغري الهواتف الحديثة مقتنيها بوظائفها المتقدمة وصغر حجمها، حتى أصبحت اليوم رفيق اللحظات المميزة وحتى العادية... إلا أن الأمر تطور لدى البعض كي يستغل هذه الميزة ليكون أذناً صاغية وعيناً تسترق النظر في المجالس الحميمة والمناسبات الخاصة، حيث شهد المجتمع مؤخراً العديد من الحوادث بسبب صورة أو تسجيل صوتي أو مصور، سببه تفشي ظواهر الابتزاز الإلكتروني والاستغلال، سجل العديد منها في سجلات المحاكم ودوائر حماية الأسرة والشرطة المجتمعية.
احترام الخصوصية
الأكاديمية و الباحثة في الشأن الاجتماعي، ندى العابدي، توعز اختراق المجالس وخيانة أماناتها إلى نقطتين، تتلخص الأولى بمدى فهم الفرد لخصوصية الآخرين واحترامه لهذه الخصوصية، أما النقطة الثانية فتتعلق بالجهل بالأمر، ويدخل ضمنها أيضاً طبيعة العلاقات بين أعضاء المجلس الذي يتم نشر ما يدور فيه سواء كانوا أفراد أسرة أو مؤسسة أو غير ذلك.
لو تحققنا من الشق الأول المتعلق بالخصوصية، نجد هذا المفهوم "مخترقاً" و"مغيباً" بيننا كمجتمعات عربية، وأن معظم العوائل لا تحترم خصوصية أفرادها، فمفهوم الخصوصية يجب أن يغرس مع أبجديات التربية الأولى، وبترسيخ هذا المفهوم داخل الأسرة، يتعلم الطفل أن هناك ما يمكن وصفه بخطوط حمراء يجب عدم تجاوزها.
يختفي هذا المفهوم ويضمحل تماماً، مع تردي الوضع الاقتصادي وانحدار مستويات التربية، والمنازل الصغيرة التي تتشارك العيش فيها أكثر من عائلة. وقد يجهل الشخص مفهوم الخصوصية ويسيء تقدير ما سيحصل في ما لو تم نشر الموضوع المسجل، لكن هناك من يبحث عن الانتشار وعن أعداد المعجبين بالمادة المنشورة، والتي تعد أحد مصادر التمويل التي جعلت "مدمني الهواتف" يلهثون في البحث عن أي موضوع مثير للجدل كي ينشر. وتستطرد العابدي قائلة إن "بناء العلاقات الطيبة يغنينا عن مثل هذه الأمور، كبناء علاقاتنا مع أبنائنا بتشجيعهم لإظهار إنسانيتهم، ومن الطبيعي أن يراجع الشخص نفسه قبل تسجيل أي مقطع صوتي أو مصور، ولن يتصيد الأخطاء ويسعى للفضيحة من يعلم أن العقاب ينتظره".
ثقافة العائلة والمجتمع هي الحصانة
وحسب ما أوضح الأكاديمي والإعلامي، صائب غازي، يعتمد هذا الموضوع على عنصري الأخلاق والقانون، والأخير يستند إلى القانون المجتمعي، والرسمي (الحكومي) ويدخل الأول ضمن ثقافة المجتمع ويرفض هذه الظاهرة، وإن كان ذلك فعلاً، فيعني أن المجتمع يرفض كل الأفعال السيئة الأخرى التي تتعلق بانتهاك حقوق الفرد وخصوصيته.
ويستطرد "أما الأخلاق التي تتعلق بتربية الأسرة، فإن سمحت للأولاد بعملية التجسس على الآخرين كاستراق السمع و النظر، فسيستخدمون التقنية المتطورة ويوظفوها في التسجيل. وبرأيي إن كانت هناك قوانين تحكم هذه الأفعال، فيجب أن يجرّم من يقوم بعملية التسجيل". ولو تقصى القانون، لشهد بعض التطبيقات الحديثة و"الكارثية" التي تسمح بالتجسس.
كما تسهم التقنيات في تثبيت وتيسير الفكر والتصرف السيئ إن لم توظف بالشكل الصحيح. ويستطرد غازي "يكفي تسطيح عقول الناس بالطريقة التي تدفعهم للبحث عن الربح التجاري السريع، بل يجب دفعهم للسعي في مجالات العلم والاختراع والسعي لرعايتها وتبنيها. فقد تساعد هذه البرامج في بناء قاعدة علمية ومجتمعية جيدة تفيد المجتمع ما يخلق جيلاً يرفض التجسس في عالم تسوده إباحة كل الممنوعات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رادع العشيرة
"إذا تمت محاسبة المسيء فيجب أن يحاسب قانونياً وعشائرياً. فتحاسبه المحكمة أولاً ثم نحاسبه عشائرياً"... يعرض الشيخ شياع البهادلي وجهة نظره ويقول "عليهم البدء بالمتعارف عليه أو ما يسمى الكوامة والفصل، ثم الإشهار بأنه شخص منافق. والمنافق منبوذ في العشيرة تماماً، ويشهّر باسمه أمام المجتمع كي ينبذه الآخرون في المجالس، وحتى ابن العشيرة يطرد منها، ويعد من المعيب حضوره بعد ذلك في أي محفل. فالستر والصدق والتسامح، هي أسس ودعائم بناء العشيرة، وليس النفاق الذي يمارس بطريقة تصوير أو تسجيل ما لم يؤذن به، وهذا لا يجوز عرفاً أو شرعاً أو قانوناً. وقد حصل ذلك فعلاً وتمت محاسبة الفاعلين".
ويضيف البهادلي "أنا أتحدث عن تجربة حقيقية، وقد نجحنا بالقضاء على هذه الظاهرة والتزم الجميع بكل المثل العليا المجتمعية في العشيرة".
القانون يجرم انتهاك حرمة المجالس
قانون العقوبات العراقي النافذ يجرم كل من ينتهك حرمة المجالس والخصوصية، سواء بتصوير فيديو أو تسجيل صوتي من دون إذن قضائي، لأنها تعد أفعالاً تنتهك حرية الأفراد، إلا أن القوانين والتشريعات النافذة يصعب عليها مواكبة التطور الكبير في وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة. إذ تنص المادة 430 من قانون العقوبات العراقي على أن "يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات أو بالحبس، كل من هدد شخصاً بارتكاب جناية ضد نفسه أو ماله، أو ضد نفس أو مال غيره، أو بإسناد أمور مخدشة بالشرف أو إفشائها، وكان ذلك مصحوباً بطلب أو بتكليفٍ بأمر، أو الامتناع عن فعل، أو مقصوداً به ذلك".
واستهانة بعض النساء في التعامل مع الصور الخاصة تقود لاحقاً بذوي النفوس الضعيفة لاستغلالهن. ومثال على ذلك، بعض الشباب الذين يستغلون علاقاتهم بنساء أو مجرمين متمرسين بهذا المجال، وفي أغلب الأحيان تكون السيدات الضحية، بحسب تصريح العميد ( ج .س) في وزارة الداخلية.
ويؤكد المحامي عبد الله الساعدي أنه "يجب أن يعاقب الفاعل بعقوبة المخبر السري الكيدي، ولأن مجتمعنا العراقي يخشى الفضائح، فيصعب أن يتقدم أحدهم بشكوى ضد فاعل اعتدى على خصوصياته"، ويكمل الساعدي "روح القانون يجب أن تواكب العصر، فالجريمة الإلكترونية والحرب السيبرانية أصبحت من ملامح عصرنا الحالي. ويجب العمل على تجريم أي شخص يتعمد استخدام هاتفه أو وسيلة أخرى في تسجيل أو تصوير ما لا يعنيه، يبغي بذلك إثارة الفتن".
الزوج يتربص بالزوجة لابتزازها
تذكر السيدة م.ع (43 سنة)، تعمل في مركز رسمي، أنها تفاجأت بزوجها يطلب منها الإجابة عن أسئلته المثيرة للشك ويجبرها على إعطاء رأيها بالآخرين بطريقة سلبية ويسجل كل أحاديثها عن طريق الهاتف بشكل علني، وتقول "ببساطه ائتمنته لأنه زوجي، ولكن تفاجأت بعد ذلك بتسريب كل الأحاديث إلى مقر عملي وعائلتي"، وتضيف أنه هددها بنشر الصور والفيديوهات الخاصة في حال لم تعطه المبالغ المطلوبة. وحين ألقي القبض عليه، تبين أنه يخزن بهواتفه الصور والتسجيلات الصوتية، ونسخ أحاديث للعديد من السيدات اللواتي يستغلهن بنفس الأسلوب للحصول على المال.
توبيخ ونقل بسبب تسجيل صوتي
وفي الحديث عن التسجيل، تؤكد إحدى السيدات (51 سنة) أنها نقلت من مقر وظيفتها لأنها تتحدث بصوت عال، وتذكر "في أحد الأيام وبحضور زملائها صرحت بما أغضبها من مدير عملها وسجل أحدهم ما حدث على هاتفه، ما تسبب لها بالتوبيخ والنقل إلى مكان آخر".
ولأن العالم أصبح قرية صغيرة، فقد أصبح سهلاً أن يظهر كل الكلام للعلن، "فالكلام في وثاقك ما لم تتكلم به، فإذا تكلمت به صرت في وثاقه". وقيل سابقاً "إن أمناء الأسرار أقل وجوداً من أمناء الأموال، وحفظ الأموال أيسر من كتمان الأسرار".