انْشَغلُ هذه الأيام بالتاريخ الإسلامي، بالذات بجزء السيرة النبوية من هذا التاريخ، ومررت قبل أيام بموقف مشركي قريش من الدعوة الإسلاميّة، وهو موقف قمعي وظالم، ولولا أن سلطة كبار قريش لم تتعد سلطة زعماء قبائل لتمكنوا من قتل الرسول ومن يتبعه، ولما كان للإسلام أن ينتشر حينها. لكنهم وعلى محدوديَّة سلطتهم كادوا أن ينجحوا بوأد الإسلام، فقد دفعوا المسلمين إلى الهجرة هربًا من القمع، كما أنهم حاصروا عشيرة محمّد التي حالت بينهم وبينه حصارًا مميتًا. ما يعني أنهم مارسوا جميع أشكال القمع والتنكيل.
حَمَلة راية القمع هم الأسرع من غيرهم في التسلل بين المقموعين وقيادتهم وذلك بعد أن تنتشر عقيدتهم ويسيل لها لُعاب المصالح
لكن ومع الأخذ بنظر الاعتبار التبريرات التي كانوا يتعكّزون عليها في قمعهم الدعوة الإسلامية، نستطيع أن نكتشف بأن نموذج كبار قريش - مشركوها وعتاتها إذا شئتم – لا يمثّلون نموذجًا شريرًا عند الناس، بل هم الشريحة الأكثر احترامًا عندهم وعند الأديان. فكل حامٍ للدين يستعمل أدوات القمع والتنكيل، لا الحوار والحجَّة، في التعامل مع المختلف هو بالضرورة نسخة مكرَّرة من أبو سفيان أو أبو جهل، سواء اعترف بذلك أو أنكر، وهؤلاء محترمون ومُبجّلون دائمًا. هذا ما يؤكده التاريخ المتداول، الذي إذا سألناه من أحرق إبراهيم؟ فسيقول؛ حماة الدين ممن استنكروا عليه تكسير أصنامهم التي يعبدون. فمن أخرج موسى وبني إسرائيل من ديارهم وطاردهم وحاول إبادتهم؟ سيكرر نفس العبارة. فمن صَلب المسيح؟ سيقول ذاتهم الذين هربوا مع موسى خشْية على حياته. فمن هجّر الشعب الفلسطيني الآن واضطره إلى الضياع في تيه دائم؟ فسيؤكد؛ هم ذاتهم الذين أخرجهم المصريين من مساكنهم وأدخلوهم في التيه والضياع!
اقرأ/ي أيضًا: أكتاف حزب وعباءة شيخ عشيرة
طيب فهل أن حَمَلة الصليب، وباعتبار أن نبيهم الوحيد من بين الأنبياء خسر حياته بسبب اختلافه، كانوا أكثر تسامحًا مع الرأي المختلف، سيجيب التاريخ: على العكس، بل لم يتنفس الاختلاف في العالم الذي حكموه قبل أن ينجح هذا العالم في وضع جدار من القوانين والأنظمة الصارمة بينه وبينهم.
إذًا، لدينا على مر التاريخ جبهتين، جبهة وقف فيها دعاة التغيير من أنبياء ومصلحين، وجبهة وقف فيها المحافظون من حماة الأديان أو حماة السائد. وكان الناس دائمًا - والأديان السائدة أيضًا - يدعمون جبهة عتاة قريش على حساب جبهة الأنبياء، فنموذج الناس الذين تجمهروا حول نار إبراهيم محتفلين بحرقه، هو ذاته الذي احتفل بصلب المسيح وهو ذاته الذي رجم محمدًا في الطائف.
النكتة في هذا الموضوع هو أن حَمَلة راية القمع، هم الأسرع من غيرهم في التسلل بين المقموعين وقيادتهم، وذلك بعد أن تنتشر عقيدتهم ويسيل لها لُعاب المصالح.
ألم يحصل هذا مع الدعوة الإسلامية؟ اليس معاوية خليفة المسلمين وأميرهم هو نفسه ابن أبي سفيان قامعهم؟ بل المدهش بالموضوع أن سنين "أبو سفيان" امتدّت به ليشهد تولي ابنه الخلافة. وهذا ليس قدحًا بمعاوية، فالرجل في نهاية المطاف صاحب الرسول وكاتب وحيه، لكن لمجرد الإشارة إلى أن أبي سفيان حامل لواء قمع الإسلام تمكن في النهاية من الجلوس على عرش الإسلام، ولو بصورة غير مباشرة، ولولا أنه وصل إلى أرذل العمر وقتها، لربما حمل لواء الدفاع عن الإسلام وحمايته من الرأي المخالف، ولكرر ذات الجرائم التي ارتكبها بحق عمار وبلال وسميَّة. فأي مفارقة هذه؟
التاريخ يساهم بقسط واسع في تعميق هذه المفارقة وترسيخها، فلو تمكن عتاة قريش من وأد الدعوة وهي بعد وليدة، لكتب التاريخ عنهم قصَّة أخرى، ولجعل منهم مثالاً للبسالة في الدفاع عن الدين والعقيدة ضد المرجفين والمدّعين.
إذًا، كم من باسل يُبجّله التاريخ ويبرر ارتكابه المجازر واستعماله السيف بدلاً عن اللسان، وهو في الحقيقة نموذج آخر عن "أبو جهل" و"أبو سفيان" و"أبو لهب". باختصار شديد؛ لم يعاني أي مصلح أو نبي في تاريخ البشرية من غير الشريحة التي تُنصب نفسها حامية للدين ومُمَثّلة الله وناطقة باسمه، شريحة عتاة قريش. لكن وعلى مر التاريخ كانت هذه الشريحة الأشد فتكًا بالأنبياء وأتباعهم، هي الأكثر احترامًا وتبجيلاً من قبل الأديان مُمَثّلة باتباعها.
اقرأ/ي أيضًا:
الدين ضحية السلطة
التلوّث النفسي في بيئة الإسلام السياسي