تستعمل مفردة "كلاو" في الكلام الشعبي العراقي للتعبير عن نوع من أغطية الرأس. وعلى عهدي وجيلي لم نكن نسمع هذه المفردة إلا مع ملابس الأطفال الرضّع، لغطاء قماشي ناعم مخروطيّ الشكل يوضع على رأس الطفل لحمايته وتدفئته.
كنّا نتصوّر أننا سنتخلص من تركة الكلاوات مع سقوط نظام صدّام حسين ولكننا للأسف وجدنا أنفسنا أمام مسرح جديد للكلاوات القديمة ذاتها
ولكن صيغة الجمع من كلاو: "كلاوات" تنقلنا الى مجال دلالي آخر تمامًا لا علاقة له بعالم الأطفال وبراءتهم، بل على النقيض؛ فالكلاوات تشير إلى الأشياء المزيّفة والمختلقة والتي يراد بها خداع الناس وإيهامهم بأشياء غير حقيقيّة.
اقرأ/ي أيضًا: في العراق: بين السياسة و"النُكتة" شعرة واحدة
في البحث عن أصل المفردة فإننا سنجد أن الكلاو ليس لباسًا شائعًا عند عموم العراقيين، وهو بالأساس غطاء مصنوع من الصوف كان يستخدمه الجندرمة العثمانيون، القادمون من بيئات جبلية باردة. ولكني لا أجد صلة بين ذلك والخداع والزيف! وتفسيري الشخصي، حتى الآن، أن أصل الدلالة السلبية المرتبطة بالكلاو قادم من غطاء رأس المهرّجين، أو أصحاب الحيل والألاعيب السحرية، وهو قريب باللفظ من المفردة الانجليزية للمهرّج "clown" وربما كانت المفردة تستخدم من قبل الجنود البريطانيين بعد احتلال العراق في 1914 للدلالة على الشخص المخادع، أي أنه مثل المهرج وصاحب الخدع السحرية، يوهمك بشيء غير حقيقي.
شاعت "الكلاوات" وانتشرت في العراق خلال فترة العقوبات الاقتصادية الدولية، وصار الخداع والزيف معتادًا، وهناك العشرات من القصص الغريبة من ذاكرة تلك الفترة العصيبة عن طرق خداع مبتكرة، تبدأ من السوق وبيع الأغراض البسيطة ولا تنتهي عند الأحكام القضائية، فهناك على الأقل قصة واحدة تحكي عن تبديل محكوم بالإعدام بمجنون جيء به من مستشفى الرشاد للأمراض العقلية في الشمّاعية. أعدم المجنون على أنه هو المحكوم بالإعدام وفرّ الجاني بجلده لقاء مبلغ كبير أعطاه رشوة للمتنفّذين.
قصص أغرب من الخيال أنتجتها قسوة الظروف واستثمار المخادعين لسذاجة الناس وبساطة وعيهم وضعف السلطة القضائية والأمنية وفسادها، وتراخي يد الحاكم السياسي وعدم اكتراثه بانهيار المجتمع وتفكّكه.
في ظلّ تلك الظروف كان التعايش مع "الكلاوات" أمرًا لا مفرّ منه. فصار الحذر المفرط وعدم الثقة اختيارًا واعيًا للشخص الفطن، ولكن هذا الحذر يتداعى أمام نوع من "الكلاوات الأليفة" التي يتفق الجميع على أنها كلاوات ويتقبلونها، مثل أقداح الشاي المصنوعة من الزجاج المعاد، والتي تتحطّم بسهولة من أقل حركة، أو أواني البلاستيك ذات الرائحة القوية لأن البلاستيك المصنوع منها معاد تصنيعه أكثر من مرّة، والستر الجلدية المصنوعة من عشرات الخرق الجلدية الصغيرة، والمشروبات الغازية المصنوعة يدويًا باستخدام الغازات الصناعية، والسجائر المضروبة، والورق الأسمر للدفاتر المدرسية، والحلوى المصنوعة من التمر بسبب غلاء السكّر الأبيض، وغيرها العشرات من المنتجات.
أما الأعمق والأكثر سعة فهي كلاوات خطاب السلطة، فكان الناس يسمعون ويتابعون الأحاديث التلفزيونية لصدام حسين وهو يتحدث عن "الكرامة والعزة والشموخ والإباء والصمود والتحدّي" فيقولون لبعضهم البعض الآخر: آه.. إنها مجرد كلاوات.
كنّا نعيش فعليًا في عالم مصنوع من الكلاوات، وكنّا نتصوّر أننا سنتخلص من تركة الكلاوات هذه مع سقوط نظام صدّام حسين، ولكننا للأسف وجدنا أنفسنا أمام مسرح جديد للكلاوات القديمة ذاتها. وأبسط مثال على ذلك ما أثير من كلام عن آلاف الشهادات الجامعية الكلاوات التي أخذها العراقيون من جامعات لبنانية.
شخصيات سياسية كثيرة زوّقها الإعلام وقدمها لنا على أنها منقذة للبلد ظهرت في النهاية أنها كلاوات، مثل حسين الشهرستاني الذي تسلّم ملف الطاقة باعتباره كان عالمًا ذريًا فرّ من سجن الديكتاتور، فقدّم لنا جولة التراخيص النفطية على أنها بداية تحويل العراق إلى دبي جديدة، ليتبيّن لنا أنها مجرد كلاوات، وكذلك الأمر مع استيراده لمحطات كهربائية تعمل بالغاز، بينما لا ينتج العراق غازًا كافيًا لتشغيل هذه المحطّات، فربط مصير الطاقة الكهربائية في العراق بالغاز الإيراني.
أتذكر أن صديقًا مثقفًا واعيًا صادفني في الشارع بعد أيام من دخول الأمريكان لبغداد وسألني عن أحوالي وأموري ثم صفق يديه بأسف، لأنني خسرت فرصة رؤية إبراهيم الجعفري يوم أمس في حسينية في منطقة الداخل بمدينة الثورة "الصدر".
ـ لقد كان متحدثًا لبقًا وذكيًا.. استمعنا إليه بإعجاب وشتمنا صدام ألف مرّة لأنه حرمنا من هذه الكفاءات!
هكذا قال صديقي وقتها، وأظنّه اليوم سيعترف بسهولة أن هذه "الكفاءة" لم نكن سوى كلاو كبير لبسناه جميعًا.
هناك نسق من الكلاوات نقع فيه دائمًا للأسف، حين نعقد آمالاً كبيرة وننسج الأحلام العريضة من دون قراءة دقيقة لمعطيات الواقع، وكأن إحباطنا من وضعنا المزري يجعلنا دائمًا بحاجة إلى هذه الأحلام أكثر من القراءة الواقعية للمعطيات.
أخطر هذه "الأنساق الكلاواتية" افتراض أن هناك طرفًا بعينه هو صاحب العصا السحرية لحلّ كلّ مشكلاتنا. الحل يأتي من "أبٍ راعٍ" يقيم هناك خارج ذواتنا، يعفينا مما هو مطلوب من ذواتنا من عمل وجهد.
لقد ربطنا نهضة العراق بمجرد إسقاط صدام، وقيل لنا أن الأمريكان سيوزعون لنا في بطاقة "الحصة التموينية" الموز والمعلبات العذائية. ثم ربطنا خلاص العراق واستقراره بوصول الإسلاميين الشيعة المظلومين والمحرومين إلى السلطة، وأن تكون هناك "حكومة شيعية" تحكم البلد، وهناك للأسف من لا يزال يصرّ حتى اللحظة أن هذا الكلاو كان من الممكن أن يكون واقعًا فعليًا لولا مؤامرات الخارج، متناسيًا أنها الحجة التي يسوقها "الكلاوجي" دائمًا لتبرير فشله واخفاقه، كما كان يفعل صدّام بالضبط!
وفي الثنائية المصطنعة التي يحصرنا فيها الإعلام المسيّس اليوم ما بين جبهة إيران وجبهة أميركا، سنجد أن هناك في كلّ طرف أناس متحمّسون لخلاص العراق المرتبط برمي كل بيضة في سلّة واحدة، وهو بعد التدقيق ليس شيئًا سوى الاستجابة لنسق الأب الراعي الذي نريد رمي أحمالنا على ظهره لننام هانئين.
إن الخروج من التركة الثقيلة لثقافة الكلاوات العراقية يحتاج إلى جهد متراكم ووقت طويل للاستمرار ببناء المؤسسات وتدعيم سلطة القانون
في رومانيا قبل عامين حدّثني بعض المثقفين الرومانيين كيف أنهم كانوا يتصوّرون أنهم بمجرد إزاحة نظام حكم شاوشيسكو الديكتاتوري والدخول في المعسكر الرأسمالي الأمريكي ستُحلّ كل مشاكل رومانيا. ليكتشفوا لاحقًا أن هذا التفكير غير واقعي، ولم تنجح النخبة السياسية الجديدة في حلّ هذه المشكلات، ليعود لاحقًا نمط من التأييد الشعبي لسياسات العهد السابق.
اقرأ/ي أيضًا: في السياسة: المتهم مذنب قبل إثبات إدانته!
هناك من يطبّل اليوم لحلّ يأتي من طريق الحرير الصيني، على وفق نسق الأب الراعي السابق، حيث تأتي الشركات الصينية وتعمل "لنا" وتشتغل وتعمّر البلد لنا، هكذا بفرقعة أصابع سحرية، بتجاهل تام للخراب الداخلي والفساد في المؤسسات والإدارات والاستقواء بالسلاح لفرض الإرادات وأخذ الأتاوات وغياب أي إمكانية لتحويل أي مساعدة تأتي من الخراج إلى تنمية حقيقية.
وعلى الرغم من قناعتي أن طريق الحرير هذا مجرد طريق جديد للكلاوات، فإنه لو صدق لتحوّلت جبال الاستثمارات إلى فئران على الأرض، بسبب منظومة الفساد الرهيبة والمعقّدة بالعراق، كما أن الطرق المعاكسة محكومة بالواقع نفسه، فما الذي يضمن أن الاستثمارات الأمريكية أو الخليجية في العراق ستؤدي إلى نتيجة مغايرة؟!
إن الخروج من التركة الثقيلة لثقافة الكلاوات العراقية يحتاج إلى جهد متراكم ووقت طويل للاستمرار ببناء المؤسسات وتدعيم سلطة القانون، وتنمية الشعور بالمسؤولية الجماعية، والتخلي عن ثقافة الاتكال أو الإيمان بالحلول السحرية السهلة السريعة التي يخرجها الساحر بعصاه من قبّعته أو كلاوه. وأنه لا يوجد رجل واحد أو طرف بعينه يملك هذه العصا السحرية، وأن المجتمع المخدّر بالكلاوات سيبقى مضحوكًا عليه دائمًا وأبدًا.
اقرأ/ي أيضًا:
أربعة حروب شيعية لتثبيت الحكم.. ما هي الخامسة؟
ماذا بعد الاستيلاء على السلطة؟