في تاريخ 22 تموز/يوليو 2012 وجه زعيم تنظيم داعش "أبو بكر البغدادي" خطابًا لما يعرف بـ"مجلس شورى المجاهدين" دعاهم فيه إلى "هدم الأسوار" على المدى المنظور القريب لإخلاء القيادات على وجه الخصوص المعتقلين في السجون العراقية، في خطوة تمهيدية منه إلى تأسيس أرض التمكين الموعودة في أدبيات التنظيم "دولة الخلافة في العراق والشام"، على الأكثر لم تؤخذ هذه التوجيهات على محمل الجد آنذاك أو تنال اهتمامًا واسعًا؛ للتحصين الكبير في السجون العراقية أولًا، ولمرور عدة أشهر دون حصول هجوم يذكر على أي منها ولا حتى ورود الأمر في التقارير الاستخبارية الرسمية للأجهزة الأمنية.
التباعد الزماني والمكاني بين عمليات تنظيم "داعش" جعل من التوقعات الاستخبارية غير ممكنة تجاه عملياته
وقد أشارت بعض الآراء الأمنية آنذاك إلى أن هذه التوجيهات قد تكن تمويهًا للغطاء على عمليات أخرى مغايرة، حينها كان التنظيم الإرهابي يعرف باسم "دولة العراق الإسلامية" بأشراف أحد قياديي التنظيم المكنى "أبو أنس" على حد زعمهم، وبعد عام كامل وتحديدًا في 22 تموز/يوليو 2013 هاجم إرهابيون سجنيّ "أبو غريب" غرب العاصمة العراقية بغداد وسجن "التاجي" شمال العاصمة بعاصفة قتالية كبيرة، تمكنوا من خلالها تهريب وإجلاء قرابة 500 معتقل بينهم قيادات في تنظيم القاعدة، بعملية نوعية كبيرة، استخدموا فيها أكثر من 100 قذيفة هاون وعشرات القذائف المحمولة وبنادق متوسطة وستة انتحاريين وعبوات ناسفة، مكنتهم هذه العملية من تحقيق التوجيهات التي تم الإعداد لها قرابة العام الكامل.
اقرأ/ي أيضًا: قصة داعش.. "تمدد" سريع وانحسار مُكلف و"بقاءٌ" محتمل
في العام 2019 وبعد خسارة تنظيم "داعش" آخر معاقله في "الباغوز" السورية قرب الحدود الغربية للعراق، أصدر تسجيلًا صوتيًا تحت عنوان "قل أعملوا" قبل مقتل "البغدادي" بأشهر، عبر مؤسسة الفرقان الإعلامية (إحدى منصات داعش الرسمية) في خطاب موجّه لأعضاء التنظيم بعد الانكسار الذي لحق بهم، تضمّن التسجيل هدم الأسوار تحت عنوان "فك العاني"، القاصد بتحرير سجنائه المعتقلين في السجون العراقية والسورية، جاء فيها: "السجون السجون.. دكوا الأسوار وفكوا العاني يا جنود الخلافة، أيها الأخوة والأخوات أبذلوا قصارى جهدكم لتحرير وهدم الجدران التي تقيّدهم"، في إشارة واضحة ممتزجة بالتوكيد على هذا السياق. الغريب في الأمر أن الاستجابة كانت في رقعة جغرافية مختلفة تمامًا عن الرقعة المقصودة "العراق والشام"، إذ كانت الاستجابة في سجن "ننغرهار" بمدينة جلال آباد الأفغانية، فر أثناء تنفيذ هذه العملية قرابة 700 معتقل من السجن.
الاستجابة الثالثة لخطبة "البغدادي" التي ولاها خليفته "القرشيّ" لم تأتِ متزامنة مع الهجومين السابقين، بل بفارق ثمان سنين عن عملية "أبو غريب والتاجي" العراقية، وأقل من سنتين على عملية "ننغرهار" الأفغانية. هذا التباعد الزماني والمكاني جعل من التوقعات الاستخبارية غير ممكنة تجاه عمليات التنظيم، وعلى الرغم من تقارير استخبارية للتحالف الدولي قبل ستة أشهر باحتمالية اقتحام وإخلاء معتقلي التنظيم في سجن "غويران" بمنطقة الصناعي في الحسكة السورية، إلا أنّ هشاشة المنظومة الأمنية والاستخبارية لما يُعرف بقوات سوريا الديمقراطية "قسد" لم تتمكن من إحباط الهجوم الدامي قبل تنفيذه أو إبان وقت العملية، بل أن كمية الإرباك المنعكسة في التصريحات الرسمية لمسؤولي ملف "قسد" أتت بتضارب كبير بانتظار قابل الأيام لتبيان الحقائق، لكن المؤكد أن العملية تمت بوساطة 200 عنصر من "داعش" وقرابة 8 عجلات مفخخة، أعدوا لها خلال أشهر ستة سبقتها، فيما كان المنطلق من منطقتي "رأس العين وتل أبيض" الخاضعتين للسيطرة التركية شمالي سوريا بحسب (سيامند علي) مدير المكتب الإعلامي لقوات سوريا الديمقراطية.
وبالرجوع إلى أبرز الأدبيات المعاصرة للتنظيم وأهدافها، فإنّ تنظيم القاعدة أطلق منصة على شبكة المعلومات حملت عنوان "انسباير" أي الإلهام، أشرف عليها الأمريكي ذو الأصول اليمنية (أنور العولقي) وخاطبت بها شرائح معينة من الشباب المتطرف في الولايات المتحدة وبريطانيا، في محاولة منها للتجنيد عبر الإلهام وتنفيذ العمليات الإرهابية، ولو تطلب تنفيذها بالسلاح الأبيض أو الدهس بالمركبات.
هذه المحاكاة سجلت نجاحات كبيرة استفاد منها تنظيم "القاعدة" وطورها "داعش" في أصداراته الإعلامية، وبالمحصلة فإنّ الهدف الأسمى لهذه العملية هو إلهام الجماعات المتشددة والمتطرفة بتنفيذ ضربات قاصمة تجاه القوى الأمنية والسلطات والمدنيين، وهذا ما قد تترجمه الأيام في قابل المدد الزمنية الضيقة والمفتوحة، فضلًا عن أن التنظيم سجل حضورًا صعبًا وبالغًا في الأهمية بتنفيذه لهذه العملية الكبرى، إذا ما أخذنا بالحسبان أن التنظيم قد عزز صفوفه بقيادات ذي خبرة ميدانية عالية وطويلة في المعارك المختلفة "حرب العصابات وحماية دولة التمكين"، ومن اللافت أيضًا أن هذه العملية تمت باستدعاء قيادات داعشية عراقية محلية قد تكن هي المشرفة أو رأس الحربة في اقتحام وإخلاء المعتقلين، هذه هي الصورة المركبة لعملية "هدم الاسوار أو فك العاني"، لكن تبقى الكواليس أكبر من هذه المفاهيم إذا ما كشفت الأيام المنتظرة عن التخادم والآليات والفواعل السياسيين.
اقرأ/ي أيضًا:
بيروقراطية الشر.. كيف أدار داعش مدينة الموصل؟
داعش من "الدولة" إلى العصابة.. انحسارٌ مركزي وتمدد شبكي