لماذا علينا أن نلوم بلاسخارت؟

آخر تحديث 2022-01-30 00:00:00 - المصدر: الترا عراق

عندما انتشرت صورة ممثل الأمين العام للأمم المتحدة رئيسة بعثة "يونامي" في العراق السيّدة جنين بلاسخارت، وهي تلعب بالثلج في مكان ما من محافظة أربيل، كان هناك عشرات آلاف النازحين العراقيين يواجهون خطر الموت تجمدًا في قلب عاصفة ثلجية، ربما كانت الأعنف منذ سنوات طويلة. وسرعان ما انقلبت العاصفة الثلجية إلى عاصفة من الانتقادات اللاذعة التي وجهها العراقيون لرئيسة بعثة "يونامي" المثيرة للجدل جنين بلاسخارت، وركزت معظم الانتقادات على مسؤولية بعثة "يونامي" في العراق إزاء ملف النازحين والدور المفترض الذي يتوجب على البعثة الدولية الدائمة في العراق أن تضطلع به لمعالجة هذه القضية الإنسانية والاجتماعية التي طال أمدها وتشعبت تفاصيلها، بشكل بات حلها يزداد تعقيدًا عامًا بعد آخر.

لا توجد أرقام دقيقة يمكن الركون إليها بشكل حاسم لأعداد النازحين في العراق

وفي خضم عاصفة الانتقادات الموجهة إلى بلاسخارت بخصوص قضية النازحين، برز رأي يعتبر أن هذه الانتقادات غير مبررة، وأن بلاسخارت وبعثتها غير مسؤولين عن معالجة ملف النازحين، وعلى المنتقدين أن يوجهوا سهام نقدهم إلى الحكومة العراقية الحالية وسابقاتها، والتي نجحت عبر أكثر من عقد ونصف من الزمن في مفاقمة أزمة النزوح الداخلي وسمحت باستخدام هذه المأساة الإنسانية في معادلات التوازن السياسي والديموغرافي، وتحولت أيضًا إلى أحد ملفات الفساد المالي الكثيرة في العراق عبر استثمار المنح والمساعدات وملايين السلال الغذائية من بعض القوى السياسية والميليشيات المسلحة كمصدر من مصادر التربح والإثراء.

اقرأ/ي أيضًا: 36 ألف عائلة نازحة بمواجهة الثلوج والبرد.. والهجرة تلقي اللوم على كردستان

يقول مدير عام دائرة الفروع في وزارة الهجرة علي عباس جهاكير إنّ "قضية النازحين باتت متشعبة ويتطلب حلها السير بمجموعة من المسارات السياسية والاجتماعية والأمنية وهي تتطلب جهدًا حكوميا استثنائيًا لا يتوفر في الوقت الحالي". وعن إغلاق بعض مخيمات النزوح وإعادة النازحين إلى مناطقهم التي هُجروا منها، يقول جهاكير إنّ "جهات سياسية تدخلت للحيلولة دون إغلاق تلك المخيمات وتعرضنا في الوزارة لتهديدات مباشرة على أعلى المستويات إذا ما واصلنا العمل على إغلاق المخيمات، مضيفًا "حتى بعض المنظمات الدولية ترفض إغلاق مخيمات النزوح وتقنع النازحين على عدم العودة إلى مناطقهم لأن بقاء مخيمات النزوح يبقي تدفق الأموال مستمرًا على تلك المنظمات".

أما بالنسبة لأعداد النازحين في العراق، فلا توجد أرقام دقيقة يمكن الركون إليها بشكل حاسم، حيث تتفاوت تلك الأرقام بشكل كبير جدًا بين ما تعلنه وزارة الهجرة والمهجرين وبين الأرقام التي تعلنها الدوائر الرسمية في إقليم كردستان. تقول وزارة الهجرة في إعلان رسمي صدر مطلع العام 2020 أن "أعداد النازحين انخفضت إلى نحو 68 ألف نازح يتوزعون في 86 مخيمًا منتشرًا في إقليم كردستان ونينوى والأنبار وصلاح الدين، فيما أعلنت دائرة الإعلام والمعلومات في إقليم كرستان في العام 2021 عن وجود نحو 737 ألف نازح في مخيمات الإقليم لوحدها. يثير هذا التفاوت الكبير في الأرقام أسئلة عن حجم التوظيف السياسي والإنساني في قضية النازحين، ودوافع كل جهة في تذويب أو إبراز مأساة النازحين، فالتقليل من أعداد النازحين يمكن أن يعد إنجازًا تفاخر به الحكومة العراقية ويدل على الإيفاء بالتزاماتها الدولية ونجاحها بتحقيق خطوات جدية لإنهاء ملف النزوح، ومن جانب آخر قد يكون تضخيم أعداد النازحين وزيادتها من قبل جهات أخرى مصدرًا لتدفق المزيد من المساعدات الإنسانية وأموال المانحين، وقد يكون هذا التفاوت والتنافس واحدًا من الأسباب الأساسية التي أبقت قصة النزوح مستمرة كل تلك السنوات في العراق.

ويؤشر هذا المسار إلى صواب الرأي القائل بأن الحكومات العراقية هي المسؤولة قطعًا عن أزمة النزوح، وعن ملايين الضحايا المكدسين في عشرات المخيمات المنصوبة في البراري، وكأنهم قطعان من الماشية وليسوا مواطنين يتمتعون بحقوق كثيرة يقال بأن الدستور قد ضمنها لهم منذ العام 2005، فلا تلوموا الأمم المتحدة ويونامي وبلاسخارت، ولكن هل تتحمل بعثة الأمم المتحدة شيئًا من هذه المسؤولية؟ هل هناك سبب يعطي الحق للعراقيين بانتقاد بلاسخارت؟

يشير أرشيف الأمم المتحدة بين الأعوام 2003 - 2020 إلى صدور نحو 20 قرارًا دوليًا تبناه مجلس الأمن حول العراق، معظم هذه القرارات كانت مخصصة لتحديد مهام وواجبات بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق ـ يونامي، حيث تنص تلك المهام والواجبات على مساعدة جمهورية العراق في تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان وبناء نظام قضائي فعال وتحقيق المصالحة الوطنية من أجل وضع العراق على طريق الاستقرار والازدهار. من المؤكد أن وجود البعثة الدولية جاء بطلب من الحكومة العراقية ووفق رؤية حددها العراق في حينها، عندما كانت القوات الأمريكية المحتلة تقوم بنقل أجزاء السلطة تباعًا لأول حكومة عراقية منتخبة، وكان التركيز الدولي منصبًا على بناء التجربة الديمقراطية الوليدة وتطويرها، في ذلك الوقت كانت الوعود براقة، تشبه بالضبط مهام بعثة الأمم المتحدة المنصوص عنها في القرارات الدولية العديدة، والتي بقي معظمها حبرًا على ورق.

وابتداءً من العام 2007 دخلت قضية النازحين من بين المهام الأساسية لبعثة يونامي ـ وفق قرارات مجلس الأمن - وبداية من القرار 1770، حيث بدأت الجملة التالية تتكرر في جميع القرارات الدولية اللاحقة وصولًا إلى القرار الأخير 2522 الصادر عام 2020 بطريقة (القص واللصق): "عودة اللاجئين والنازحين أو إدماجهم في المجتمعات المحلية، حسب الاقتضاء، بطريقة آمنة وحسنة التوقيت ومنظمة وطوعية، بسبل منها الجهود التي يبذلها فريق الأمم المتحدة المحلي". يمكننا الآن تصور أن هذه الجملة بالذات تكررت طيلة السنوات الخمسة عشر الماضية ومأساة النزوح في العراق مستمرة وتتكرر كل عام، بإمكاننا أن نتصور بأن قضايا تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان وبناء القضاء ونظام العدالة والمصالحة الوطنية أين وصلت في العراق، فإذا كان بقاء البعثة الأممية في العراق مرهونًا بمساعدة العراقيين على تحقيق هذه الأهداف ولم تتحقق في مجلمها طيلة 19 عامًا، فعلى جهة ما أن تتحمل المسؤولية وتعلن فشلها والأسباب التي أدت إلى هذا الفشل، خصوصًا إذا كان ذلك الفشل مرتبطًا بموت العراقيين وتهجيرهم واستباحة أمنهم ومستقبلهم ومواردهم، فليس من العدالة أن يدفع السكان في العراق إصرار البعثة الدولية على العمل في العراق لسنوات إضافية دون تحقيق نتائج حاسمة وملموسة، خصوصًا في القضايا الإنسانية الملحة والمرتبطة بالنسيج الاجتماعي ومستقبل الأجيال المقبلة.

إن التعامل مع المجتمعات التي تعاني من آثار الحروب والأزمات الإنسانية بهذا الكم الهائل من المعاناة وعبر كل هذه السنوات الطويلة فقط من خلال نصوص لغوية جاهزة يتم تكرارها في قرارات دولية كل عام، لا تبدو فكرة جيدة أو مفيدة، كما أن تحويل العراقيين إلى ضحايا دائميين داخل بلدهم لا يمكن أن يكون قدرًا نهائيًا ولا ثمنًا مفتوحًا يدفعه الناس طيلة حياتهم البائسة، وعلى الديمقراطية التي يدعمها المجتمع الدولي في العراق أن تضمن العدالة والمساواة وتحرير المجتمع من الفاقة والإذلال قبل أن تضمن ذهاب الناس إلى صناديق الاقتراع لضمان حصص الأحزاب السياسية المهيمنة على السلطة. لا يمكن تعزيز معايير حقوق الإنسان في بلد تغذي فيه السلطة المنتخبة التي ترعاها الأمم المتحدة الانتهاكات وغياب القانون والإفلات من العقاب والفساد والثقافة الطائفية، بل قد تكون هذه أطول نكتة في التاريخ.

اقرأ/ي أيضًا: 

بين الانتخابات والأجندات.. استغلال النازحين داخليًا وخارجيًا

النازحون في العراق..مخيمات الموت المُهملة