ماذا تعلّمتم من إيران؟

آخر تحديث 2022-01-31 00:00:00 - المصدر: الترا عراق

حين قرأت كتاب "النظام العالمي" لوزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر، وتتبّعتُ بصبر وهدوء عدد الصفحات التي يخصّصها للسياسية الإيرانية، علمتُ منذ ذلك الحين كمّ الإعجاب الذي تكنّه السياسة الغربية لإيران حتى بعد التحول الأيديولوجي الذي طرأ على السياسة الإيرانية. ولطالما كانت هذه الأخيرة ندًّا صلبًا وعنيدًا في المفاوضات الطويلة النفس بينها وبين الغرب على أثر هذه التحولات.

تشير الوقائع بوضوح إلى أنّ شيعة السلطة في العراق حتى هذه اللحظة ليسوا معنيين ببناء الدولة على الإطلاق

وبلا شك، ومهما كانت علامات الاستفهام التي نبديها تجاه السياسية الخارجية الإيرانية، خصوصًا كعراقيين، لكن هذا لا يمنعنا، وبدوافع موضوعية، من الإعجاب بالدبلوماسية الإيرانية. ليس هذا فحسب، بل بوصفها أمّة ودولة استطاعت أن تتجاوز الكثير من التحديات. يكفي أن نرى ماذا يحصل في العراق ومدى تقبّل بعض القوى السياسية الشيعية هيمنة النموذج الإيراني على السياسة العراقية دون أن يرسموا لهم خصوصية سياسية تنسجم مع التطلعات الوطنية.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا تعني عبارة "البيت الشيعي"؟

فهم، على الأرجح، لم يتعلموا من السياسية الإيرانية شيئًا رغم المكوث الطويل هناك في زمن الحرب العراقية الإيرانية. لكنّ سياسي محترف مثل هنري كيسنجر لا يخفي إعجابه بالسياسة الإيرانية، وحين يكتب عن هذه السياسة كما لو أنّه يكتب قصيدة شعرية. فهو يقول في سياق كلامه عن تاريخ الدبلوماسية الإيرانية، إنّ السياسي الإيراني يقنعك إلى نهاية المطاف بأنّه لا يحتاج إليك ثم يفاجئك بالحصول على كل ما يريد! وهي إشارة إلى مدى حنكة وصبر الإيرانيين واحترافهم فن التفاوض. إنّ أعجاب هذا الدبلوماسي المخضرم ليس إعجابًا فارغًا عن المضمون، بقدر ما هو فهم عميق لخصم عنيد لطالما تعاملوا معه بنديّة.

حتى بعد أن تحول التشيع إلى أيديولوجية للدولة، فقد ظل الإرث الحضاري والذاكرة السياسية الطويلة الأمد تلعب دورًا في إدارة دفة السياسة الخارجية، فهذا المزيج الفريد، والتوليفة الحضارية بين تاريخين متقاطعين، وأعني بهما الزمني والروحي؛ الحضارة الفارسية والدين الإسلامي، ترك بصماته الواضحة على السياسة الإيرانية من حيث السلب والإيجاب.

وعلى الرغم من إرث التشيع الثقيل الذي ألقى بظلاله على أيران كدولة وأمة، وتوترات غاية في الخطورة أسفرت عن حرب دامت ثمان سنوات بينها وبين العراق، وعلاقات دبلوماسية متوترة بين بعض الدول العربية، والقلق والارتياب العربي حول تصدير الثورة الشيعية إلى البلدان العربية، وغيرها من هذه الأمور، إلا أنّ الإيرانيين، وبمطاولة مدهشة، ما زالوا يكابدون هذه التحديات بكل ما يحمل العناد الفارسي من معنى.

 

 

لستُ بصدد التبجيل ولا إلقاء الأناشيد الحماسية، لكن بودي القول، إنّ الإيرانيين لا يساومون على قدس أقداسهم: الأمة والدولة، مهما تغيّرت الأيديولوجيا السياسية الحاكمة، فالشعور القومي الإيراني ثابت لا يتغيّر. فهل ثمّة شيء مماثل يمكن أن نستذكره عن بعض السياسيين العراقيين الذين صحبوا الإيرانيين سنين طوال في حربهم وسلمهم؟ لا شيء يوحي بذلك على الإطلاق، فالعراق مختبر عظيم كشف لنا عن معادن السياسيين، واتضح أنهم يفهمون كل شيء إلّا إدارة الدولة.

على أية حال، شيعة إيران مزجوا الحضارة بالدين، وخرجوا بمزيج مثير للجدل والإعجاب معًا؛ دولة مؤسسات مقتدرة بسياستها الداخلية والخارجية، ولم يفرطوا بهذا الصرح العظيم لاعتبارات عقدية. ظلّت الدولة الإيرانية هي هي من حيث المضمون رغم اختلاف الشكل الأيديولوجي. وقد نجادل عن الفارق بين ماضي إيران وحاضرها، وقد يذهب فريق للانتصار لماضيها ويذم حاضرها والعكس صحيح، ولكننا قد لا نختلف عن جوهر السياسية الإيرانية؛ فن إدارة الأزمات بدهاء منقطع النظير سواء كانوا فرسًا أقحاح أم شيعة! لكنّ تشيّعهم لم يمنعهم من إدارة ظهورهم للعمل المؤسساتي.

أما شيعة العراق فلا نظرية سياسية لهم واضحة المعالم يمكن الاهتداء لها، وعادة ما يمزجون ذاكرتهم القبلية بالدين، ونتج من هذه التوليفة العجيبة مزيجًا معقّدًا؛ فعلى الرغم من كونهم قوة مهيمنة في الوقت الراهن، إلا أنهم يبدون نفورًا ملحوظًا تجاه العمل المؤسساتي، ويندر أن تعثر على مفهوم الدولة في قاموسهم السياسي. وعلى الرغم من المعايشة الطويلة في إيران حيث يُفتَرض أنهم كانوا بالقرب من ساسة إيران، إلّا أنّ شيئًا من هذا لم يحصل على أرض الواقع في العراق، إذ فضلوا البقاء في الخطوط الخلفية فيما يتعلّق بفهم السياسة.

إنّها بحق مشكلة محيرة ومعقدة لا تتوفر على حلول آنية. وتشير الوقائع بوضوح إلى أنّ شيعة السلطة في العراق حتى هذه اللحظة ليسوا معنيين ببناء الدولة على الإطلاق. فيا ترى ماذا تعلموا من السياسة الإيرانية؟!

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ديمقراطية السقيفة

في العراق: بين السياسة و"النُكتة" شعرة واحدة