بصرف النظر عن العوامل الشخصية التي تلعب دورًا حاسمًا في تكوين أحكامنا تجاه الجماعات الدينية بوصفها قوىً سياسية تشارك في بلورة الخطاب السياسي في العراق، إلّا أن الواقع السياسي، في العراق خصوصًا، يحتم علينا الانشغال في فهم الجماعات الدينية. لماذا؟ لأنها تشغل حيزًا واسعًا في العملية السياسية، ولها القول الفصل في كل ما يحدث. حتى أن المرء لا يجازف بالكلام عن تنظيمات "علمانية" في الوقت الحاضر، نظرًا للوضع الاجتماعي والسياسي المعقد في بلد متخم بالولاءات الشخصية. وهذه الأخيرة هي الشرط المسبق لكل حراك سياسي في بلد القبيلة والمذهب، وما عداها ستبقى أمنيات تراودنا، ونؤكد على استحالتها في المستقبل القريب على الأقل. أما التنبؤ بالمستقبل البعيد فهو رجم بالغيب، مضافًا إلى معرفتنا المسبقة باستحالة تغيير الدستور الذي تقسم على فصال المكونات.
هل راجع التيار الصدري أدبياته السياسية فعلاً بحيث يمكن القول إننا سنشهد تغييرًا بنيويًا في الخطاب الصدري؟
لذلك أن أي محاولة تجديدية تتبناها أحدى الجماعات الدينية تعتبر فسحة سياسية. ليس لأننا نميل إلى هذا الطرف أو ذاك، لكنّ الموقف السياسي المعلن، والذي يليه سلوكًا عمليًا يبرهن صحة هذا الموقف، من قبل هذه الجماعات هو من يحدد هويتها السياسية في نهاية المطاف. وعلى الرغم من أننا مأخوذين بالريبة من جميع التنظيمات الدينية، وأن التشكيك في مواقف هذه الجماعات هو الأصل الذي ننطلق منه، لكن، وبشيء من الموضوعية، علينا أن نرى الموقف الأخير الذي أبداه الصدريون من العملية السياسية، ودفاعهم عن مفهوم الأغلبية السياسية، وتحالفهم الجديد مع الخصوم القدماء، يفتح بابًا واسعًا للأسئلة المحفوفة بشيء من التشكيك فيما إذا كان الصدريون عازمين حقًا على إحداث تغيير مفصلي في خطابهم السياسي، ثم يستتبعه، حسب الفرض، نظرة مغايرة لبناء الدولة.
اقرأ/ي أيضًا: الصدريون: تغيير سياسي أم مصالح فئوية؟
وعلينا أيضًا ألا نذهب بعيدًا بالتفاؤل حول البنية العقائدية لهذا التيار والتسلسل الهرمي الذي يمثل لحمته وسداه، وأعني به القيادة الروحية من قبل السيد مقتدى الصدر. بالطبع لسنا معنيين على الإطلاق بالصدريين من حيث كونهم جماعة عقائدية تمارس طقوسها الدينية في الفضاء العام، ولا أعني أنهم حاولوا في السنين الماضية تطبيق الشريعة الإسلامية داخل العملية السياسية. بل أعني بالذات كونهم فاعلين سياسيين يمارسون العمل الديمقراطي طبقًا لمحددات الدستور. وقد يقال، ربما من الصدريين أنفسهم، إذا كان الأمر كذلك فالسؤال ينطبق على غيرهم من الجماعات الدينية. والجواب: أن الصدريين معنيين دون غيرهم باعتبارهم جماعة تنطلق من الداخل، ويهمنا أي تغيير يطرأ على هذا التيار، خصوصًا أن خصوم التيار يقفون لصالح الموقف الذي ينادي بمفهوم الأغلبية. بمعنى أن الخصوم لمجرد أن تلمسوا فسحة ديمقراطية وقفوا بجانبها.
على أن هذا الموقف، والحق يقال، ليس تأييدًا للتيار بذاته بقدر ما هو تأييد لمبدأ ديمقراطي من جهة، ويساهم في استبعاد الحرس القديم أو إضعافه من جهة أخرى. ومن هنا نفهم أن أي تغيير ينتصر للمبادئ الديمقراطية، وبنفس الوقت يضعف من قوة المعسكر القديم، يلاقي استحسانًا من قبل المواطنين حتى وإن كانوا من الخصوم.
فهذا بالضبط ما يدفعنا لنكتب حول هذا التيار ومن هذه الزاوية بالتحديد، فالمواقف الفكرية ينبغي لها أن تكون عابرة لثنائية الخير والشر. لكن، لا الجمهور العقائدي يفهم هذه الحقيقة ولا خصومهم. وربما يحق لنا أن نقف بجانب الجمهور المشكك بمواقف الجماعات الدينية فالواقع يخبرنا، وليس الشعارات، أن الجماعات الدينية لا تحسن إدارة مؤسسات الدولة، ودائمًا ما تقدم العقيدة الدينية على مفهوم الدولة. وهي بهذا أضاعت الاثنين؛ فلا الدين حقق ازدهارًا ملحوظًا ولا الدولة ازدهرت مؤسساتها. وفي العراق بالتحديد، لا القوميين سابقًا ولا الإسلاميين راهنًا استطاعوا الإفلات من قبضة السلطة.
المهم في الأمر، ثمة سؤال يشغلني شخصيًا، وهو بعد هذه التجارب المريرة هل راجع التيار الصدري أدبياته السياسية فعلاً، بحيث يمكن القول إننا سنشهد تغييرًا بنيويًا في الخطاب الصدري؟ بمعنى هل اهتدى الصدريون في نهاية المطاف على أن الدولة لا تدار بالشعارات العقائدية، ويمكن لهذه الأخيرة أن تكون عوامل فردية تساهم في تهذيب السلوك الفردي، لكنها لا تساهم في بناء الدولة؟ ما الهامش الذي سيتركه السيد مقتدى الصدر لفصيله السياسي داخل قبة البرلمان؟ هل سيستعين بالخبرات الأجنبية لتلافي النقص الحاصل بالخبرات المحلية، وخصوصًا لدى أعضاء التيار الصدري، بحكم قلة خبرتهم في إدارة الدولة هم وغيرهم من التنظيمات الأخرى؟
هل استطاع الصدريون فهم اللعبة أخيرًا من أن المصالح العملية مقدمة على كل شعار آخر؟
الموضوع لا علاقة له بالهوية الدينية للأفراد، بل أعنيهم كفاعلين سياسيين أمامهم دور خطير في المستقبل القريب. خصوصًا أن هذا التيار يستمد ولاءاته الدينية من الداخل، بمعنى أنه ليس تيارًا سياسيًا موسميًا، بل سيبقى راسخًا لأمد طويل (كما نوهنا في السنين الماضية على عكس الحالمين)، ويمكنه أن يصحح مساره ما دامت الفرصة سانحة. وليس هناك أي ضمان من أن حظوظ التيار ستكون مختلفة عن السابقين فيما لو ظل يراوح بنفس المنطق القديم، وأعني به الفشل الذريع في إدارة مؤسسات الدولة من قبل كل القائمين على العملية السياسية، والتيار أحد الأعمدة الرئيسية للنخب السياسية التي تولّت هذا الأمر.
كل هذه الأسئلة لا تنفع معها الأجوبة النظرية، بل ستحدد لنا الوقائع والنتائج الحاسمة في السنين الأربع القادمة فيما إذا كان الصدريون عازمون على تصحيح المسار والشروع ببناء دولة المؤسسات، أم ستبقى العوامل الشخصية والفئوية تلعب دورًا محوريًا في العملية السياسية، كما ذكرنا في المقالة السابقة. وعلينا أن نذكّر أن الفرص تمر مر السحاب والتاريخ لا يحمي الغافلين.
اقرأ/ي أيضًا:
ديمقراطية السقيفة
في العراق: بين السياسة و"النُكتة" شعرة واحدة