أكبر مشكلة واجهت الكثير من العراقيين بعد انهيار حكم البعث هي مشكلة الاستقلال. لأنّهم فوجئوا بحقائق صادمة من ضمنها ذلك التقسيم المشؤوم الذي تم بموجبه تقطيع أوصال هذا البلد العريق إلى مقاطعات طائفية وعرقية. واتضح لهم، بعد هذه التجارب المريرة، أن المصالح الفئوية مقدمة على المصالح الوطنية للبلد. فكل شيء يمكن أن يتلمّسه العراقيون إلا الاحترام لهذا البلد الذي وجدت فيه أول أبجدية في التاريخ البشري، وتعاقبت عليه عدة ممالك وإمبراطوريات، وكانت آخر هذه الحضارات هي الحضارة العربية الإسلامية. بيد أن هذه التاريخ الخصيب الذي يمتد لآلاف السنين لم يجد أثرًا ملحوظًا في ذهنيات الحكام الجدد. حتى الأيديولوجيات الإسلاموية أو القومية، التي يتذرع بها هؤلاء، ليست سوى مزايدات تنشط في الفترات السياسية الحرجة، ثم سرعان ما تُرمى في صناديق الاقتراع.
هل يعقل بعد كل هذه العائدات النفطية لا توجد في البلد أي ملمح حضاري يوازي حجم الواردات الهائلة التي دخلت خزينة العراق؟!
أن الأيديولوجيات، سواء اتفقنا معها أم اختلفنا، توفر، على الاقل، الحد الأدنى من التفكير المنظم، وتدفع معتنقيها على ترجمة هذا التفكير المرتبط بهذه الأيديولوجية أو تلك. ومرة أخرى أكرر، لا يعني هذا تشجيع الأيديولوجيات العنصرية التي لا تختلف يطرحها عما نشاهده الآن في الوضع العراقي. لكن المقصد هو حتى الحد الأدنى من التفكير الموجه لا تتمتع به هذه النخب. إن الأيديولوجيا هي مجموعة من الأفكار المترابطة يجري من خلالها تحليل الواقع، والخروج بخلاصات عملية تترجمها النخبة على شكل مشروع سياسي واقتصادي واجتماعي. وعلى أثرها يمكن وصف الهوية الأيديولوجية لهذا البلد فيما لو كان يساري التوجه أو ليبراليًا أو يمينيًا ونحو ذلك.
اقرأ/ي أيضًا: السلطة بوصفها ديانة مُقَدَّسَة
وإلى الآن لا يوجد وصف جامع مانع لتوجه السياسة العراقية سوى انها عصيدة غير متجانسة، لا يجمعها سوى التكالب على المتاع الرخيص، والمشاركة الفعالة في نهب خزينة الدولة بشكل يؤمن لكل الأمراء حصصهم المضمونة. ربما المشترك الوحيد الذي يجمع أمراء المحاصصة هو عدم الإيمان بالعراق وتاريخه العريق. وعلى ما يبدو أنهم مجمعون على نتيجة حاسمة بالنسبة لهم وهي أن عمرهم السياسي ليس طويلًا، فمن باب أولى ملأ خزائنهم بما يكفي، وترك البلد يعاني من حمل ثقيل ستكابد من خلاله الأجيال اللاحقة لعقود طويلة.
معظم العراقيين يحاولون العثور على جواب شافِ عن ذلك الذنب الذي اقترفوه ليتم التعامل معهم بهذه الطريقة الشنيعة، وهم يرون ثرواتهم تتبدد في جيوب هؤلاء الأمراء. وقد حاول الجيل الجديد أن يفهم طبيعة هذا الذنب، فجاءهم الجواب حاسمًا وسريعًا: اغتيال، واختطاف، بحجة التواطؤ مع السفارات! وكل هذه الأحداث يجري توثيقها وربطها بشكل متسق من قبل العراقيين ليخرجوا بخلاصة صادمة للغاية، وهي أن القائمين على الأمر يكرهون العراق، وأن الولاء لهذا البلد آخر ما تفكر به هذه النخبة التي ابتلي بها الشعب العراقي.
ذلك أن كل ما يجري خارج حدود المنطق، وإلا ما معنى أن يتحسر العراقيون، بعد كل هذه الثروات الطائلة، على نظام صحي، وتعليمي، وخدمي، يليق بهم. وهل يعقل بعد كل هذه العائدات النفطية لا توجد في البلد أي ملمح حضاري يوازي حجم الواردات الهائلة التي دخلت خزينة العراق؟! ألا تدعو هذه الحقائق إلى الحيرة: الأمن المائي مهدد من قبل الجيران، والأمن الزراعي ليس أحسن حالًا من الأول، حيث يفقد العراق بالتدريج مساحاته الزراعية الشاسعة، والبنية التحتية كما هي عليه منذ عقود، والنظام الصحي والتعليمي لا يرقى حتى لأفقر بلد من البلدان النامية، والعاصمة تحولت إلى أسوأ عواصم المنطقة، والنخب السياسية تلهث وراء السلطة وتتوزع ولاءاتها لدول الجوار، وثمة إجماع غير معلن فيما بينها على إهمال مؤسسات الدولة، والقائمة تطول.
ربما يقال إن السبب من وراء ذلك كله هو عدم الخبرة. لكن هذا الجواب يعقد القضية أكثر من ذي قبل، فقلّة الخبرة تستدعي جلب الخبرات الأجنبية مثلما هو معمول به في كل بقاع الأرض، لكننا لم نشهد أي من تلك المبادرات. فالأعم الأغلب من الاستثمارات التي تجري في العراق لا نشاهد منها سوى مجمعات سكنية صممت للأثرياء حصرًا، ومراكز تجارية تنتشر في العاصمة كما الفطر تزيد من ثروة المتسلطين، في حين يعاني البلد من شماله إلى جنوبه من نقص الخدمات الأساسية.
الأعم الأغلب من الاستثمارات التي تجري في العراق لا نشاهد منها سوى مجمعات سكنية صممت للأثرياء حصرًا
ربما تنشط بعض الفعاليات الخدمية أيام الانتخابات، مثل ترقيع الشوارع بالأسفلت، وتوزيع البطانيات على فقراء الناس، وما شابه ذلك. فغير ذلك لا نجد سوى حقيقة يتفق عليها جميع العراقيين، وأضحت شبة مُسَلَّمَة وهي: لماذا يكرهون العراق لهذا الحد؟!
اقرأ/ي أيضًا:
ديمقراطية السقيفة
في العراق: بين السياسة و"النُكتة" شعرة واحدة