استكمالًا لما جاء في المقالة المهمة للصديق زيا وليد المعنونة "العراق "غير مهيأ".. الكفاح ضد الديمقراطية والتغيير"، والتي سلّطت الضوء على أحد الإشكاليات العويصة في الفكر السياسي العربي، أعني بها الممارسة الديمقراطية. إذ لا زالت النخب العربية الفاسدة تصدّع رؤوسنا بقصور الشعوب العربية عن فهم الديمقراطية. وتبدو هذه الأخيرة في ضمير هؤلاء مقولة غربية محضة وليست ممارسة إنسانية. وحين يركزون على قصور الشعب من هذه الناحية، فهم يعنون النموذج المثالي للشعب الميتافزيقي الذي لا يوجد سوى في أذهانهم. فهم استثناء من ذلك القصور. ذلك أن "النزعة الواقعية" المٌرَوّعَة التي حفظناها عن ظهر قلب قادتهم إلى تلك الخرافة. كل ما في الأمر أنهم ينتظرون نضوج المجتمعات لكي يصادقوا على الديمقراطية! ويمكننا أن نذهب بعيدًا بهذا "التحشيش" الذي أدمنته النظم السياسية المستبدة ونخرج منه بخلاصات كثيرة لولا مخافة الإسهاب.
إذا كانت الشعوب عاجزة أو "غير مؤهلة" كما يزعمون، فبماذا نفسر عجز النخب السياسية عن ممارسة الديمقراطية فيما بينها؟
إنّ الإشكال الذي يتنطعّون به يدينهم قبل أن يدين الشعب. ذلك، لو سلّمنا جدلًا، أن الديمقراطية تفتقر لحواضنها الشعبية، ونسلم معهم أن الديمقراطية مشكلة اجتماعية، فبماذا نبرر تلك النزعة الاستبدادية التي أضحت هوية ثابتة لهذه النخب السياسية؟ في الحقيقة لا نعثر عن أي مفردة في معجم الاستبداد العربي. كما لو أن لسان حال النظم الاستبدادية يقول: نمارس عليكم سياسة القمع والتنكيل، والنبذ والإقصاء، إلى أن تتأهلون بالكامل للعمل الديمقراطي. نمارس عليكم نظامًا شموليًا بحيث تندمج فيه السلطة السياسية والمجتمع المدني بمعزل عن أي تمايز بين الاثنين. ثمّ نتبجّح بخرافة عدم التأهيل.
اقرأ/ي أيضًا: العراق "غير مهيأ".. الكفاح ضد الديمقراطية والتغيير
دعونا نصوغ الإشكالية بعبارة أخرى: إذا كانت الشعوب عاجزة أو "غير مؤهلة" كما يزعمون، فبماذا نفسر عجز النخب السياسية عن ممارسة الديمقراطية فيما بينها؟ ثمّة مؤامرة داخلية تنسجها تلك النظم الاستبدادية، اسمها مؤامرة الانقلاب على الديمقراطية، مبررة إيّاها بخرافة أضحت مسوّغًا انقلابيًا مكشوفًا من خلال رمي الكرة في ملعب الشعوب. كما لو أن المستبدين يتباكون على الديمقراطية ويتحرقون شوقًا إليها، لكن الشعوب تمنعهم من ذلك. وبما أن الشعوب العربية تقف بالضد من هذه النهضة المرجوة، تعمد النخب السياسية لممارسة الاستبداد تعويضًا عن الديمقراطية الموعودة! لذلك يمكن القول إن هتك الكرامة البشرية، واحتقار الحريات، وضعف مؤسسات الدولة سببه الشعوب وليس النخب السياسية.
ثمّة خرافة آخذة بالاتساع، ولقد وجدت حيّزًا واسعًا في ذاكرة الناس مفادها، أن المجتمع العراقي، على سبيل المثال وليس الحصر، لا يرغب بالديمقراطية كممارسة سياسية. وعلى هذا الأساس تتولد لدينا مقدمة منطقية: بما أن المجتمع غير مؤهل للديمقراطية، فمن المنطقي أن تفشل الديمقراطية. والنكتة الطريفة في هذه المغالطة المنطقية هي جعل التغيير الاجتماعي شرطًا مسبقًا للتغيير السياسي! وبما ان التغييرات الاجتماعية عادة ما تحتاج إلى عقود طويلة، فالنتيجة لا ديمقراطية عربية! إذًا، وعلى هذا المنوال، تغدو الديمقراطية العربية ديمقراطية شعوب وليست ديمقراطية نخب. وهي استنتاجات غريبة وتعارض كل الوقائع. ليس هذا فحسب بل تقلب الأحداث التاريخية رأسًا على عقب، فالمعلوم أن النخب هي من تأخذ زمام المبادرة وليس العكس، لكنّ القضية في ضمير المستبدين لها توصيف آخر.
يخبرنا التاريخ أن التغيير السياسي مقدمًا على التغيير الاجتماعي. فتصور معي لو كان رفض الديمقراطية مرتبطًا بفشل المجتمع ونفوره الصريح من التغييرات السياسية الكبرى، فمعنى هذا أن المجتمعات الأوروبية لم تهتدِ بنور الديمقراطية لولا حدوث التغييرات الاجتماعية. وهذه بدعة تثير الضحك ولا يصدقها سوى المستبدين وأنصارهم. إذ لو تُرِكَت التغييرات الكبرى رهنًا بيد المجتمعات فقط لما ظهرت الديمقراطية على مسرح الوجود على الإطلاق، ذلك أن طبيعة الحراك الاجتماعي تتسم بالبطء وعادة ما تكون صيرورتها طويلة الأمد. ولو خليت الأمور رهنًا بيد المجتمعات دون النخب لما رأينا ديمقراطية على الإطلاق.
وبهذه الشيطنة المدروسة تسرّب لدى الناس الإحباط والعدمية واللا جدوى، وباتوا يسقطون تصورات وهمية حول ذواتهم، ومنها أن قيام الديمقراطية في العراق أمر مستحيل. متناسية حقيقة مرّة وهي أن النخب السياسية العراقية لا تتحلى بالشجاعة الكاملة لتعترف بالحقيقة التالية: إنها جماعات سياسية تحتقر الديمقراطية، ولا توجد لديها أدنى مبادرة لاتخاذ الديمقراطية ممارسة لها في سلوكها السياسي. وأن الديمقراطية في العراق مشكلة سياسية قبل أن تكون مشكلة اجتماعية، وأن القائمين على الأمر لا يؤمنون بالمعجم السياسي الحديث. فذلك الإيمان يكبّدهم خسائر فادحة أقلّها أنهم لا يشمون رائحة السلطة إلى الأبد، ولأن الديمقراطية تنطوي على شرط جوهري وهو الحد من الاستبداد، ولأن هذا الأخير هوية راسخة لمعظم النظم السياسية التي حكمت العراق، فلا بدّ من إشاعة خرافة عدم التأهيل؛ فالتأهيل الوحيد الذي برعت فيه تلك النظم السياسية هو القتل، والتشريد، والاغتيالات، وروح الانقلاب.
اقرأ/ي أيضًا:
مبادرة الحكيم.. المعول الأخير لهدم الديمقراطية
المؤشر العربي: كيف يتفاعل العرب مع الديمقراطية؟