ربما لم يعد شائعا في العراق منذ زمن ليس بقليل أن تشاهد حفلا لفن المقام يحضره شبان في مقتبل العمر، لكن حفلا أقامته مؤسسة المحطة لريادة الأعمال في بغداد كسر هذه الصورة النمطية المعتادة، حيث غصّت القاعة بشباب وفئات عمرية أخرى، قدموا للاستماع إلى وصلات المقام التي قدمها الفنان قيس الأعظمي برفقة فرقته "دار السلام".
الأعظمي قدّم أغاني مختلفة من التراث الموسيقي العراقي، تنوعت بين أنماط بغدادية وموصلية، ومن المناطق الغربية والجنوب وإقليم كردستان العراق، وقد رقص الجمهور على نغمات وأغاني الدبكة العراقية التقليدية المسماة "الجوبي".
بعض المشاركين قدموا من محافظات أخرى، مثل سجى عادل التي جاءت من كركوك لحضور الحفل، وتقول إنها بدأت الاهتمام بفن المقام خلال السنوات الأخيرة، بعدما لاحظت أن طريقة تقديمه "التقليدية" لم تعد جاذبة للشباب، وأنه بحاجة لتطوير حتى يلائم أذواقهم، على حد قولها.
وتضيف إن الحفل الأخير الذي أحياه الأعظمي أعاد لها الثقة في هذا الفن، خاصة وأن معظم الحاضرين كانوا من الشباب الذين أصبحوا يبدون كثيرا من الاهتمام والمتابعة لأغانيه.
أما سعد إبراهيم القادم من الموصل فقد لفت نظره حجم التنوع الموسيقي الذي يمكن أن يقدّم من خلال المقام، مما يؤهله ليكون "خزانة ضخمة وأرشيفا هائلا" لتاريخ الموسيقى العراقية، وفق تعبيره.
محاولات إحياء المقام
ورغم تراجعه السنوات الأخيرة وغيابه شبه الكامل عن وسائل الإعلام، فإن محاولات عدة جرت لإعادة المقام العراقي إلى الساحة الفنية، عبر أعمال متفرقة قام بها فنانون مقيمون داخل العراق وخارجه.
ويقول الأعظمي إن المقام ازدهر كثيرا الفترة من عام 1920 مع نشأة الدولة العراقية الحديثة وحتى السبعينيات، حين ظهرت الأغنية الحديثة المعروفة بـ "السبعينية" وبدأت تؤثر على حضور هذا الفن التراثي واهتمام الناس به.
ويضيف للجزيرة نت أن الإعلام العراقي أسهم في تراجع المقام وقتها، حين كان يقدم الفنانين الشباب بأناقتهم وألبستهم العصرية وأغانيهم الحديثة اللافتة للانتباه، مقابل بعض قارئي المقام غير مقبولي المظهر، أو ممن يترنمون بألفاظ وقصائد قديمة غير مفهومة للأجيال الشابة، مما بنى حواجز بين الشباب وهذا الفن العريق.
وللتغلب على هذا، يشير الأعظمي إلى أنه بدأ تجربة إعادة المتلقي للتفاعل من جديد مع المقام منذ عام 1992، حين كوّن فرقة "دار السلام" حاول من خلالها اختيار الكلمات والمقامات التي يمكن أن يتفاعل معها الجمهور، وتستهوي الشباب وكبار السن معا.
وبدأ أيضا في انتقاء الأغاني التي يفضلها للجمهور مثل "هذا الحلو كاتلني يا عمة، فوق النخل" وقد لاحظ أن التفاعل بدأ يزداد مع هذا النمط من الأغاني منذ عام 2014، على حد قوله، وخاصة عندما بدأ جولات واسعة لتقديم هذا الفن داخل العراق وخارجه، في الولايات المتحدة وفرنسا وسويسرا وغيرها.
وحول محاولات تقديم المقام بشكل عصري من خلال إعادة توزيعه باستخدام آلات موسيقية حديثة، يرى الأعظمي أن هذه المحاولات لن تنجح إلا على صعيد الأغاني، أما المقامات فهي "مقيدة" وتراث لا يمكن التلاعب به وأو تغييره، بحسب تعبيره.
هوية فنية
ويختلف الباحثون حول تاريخ ونشأة المقام العراقي، ففي حين يُرجع البعض جذوره الأولى إلى حضارة بلاد الرافدين القديمة، يعتقد آخرون أن بداياته كانت في العصر العباسي، مع ازدهار حركة الآداب والفنون، ويؤكد غيرهم أن ملامحه اكتملت بالعهد العثماني، في 4 مدن عراقية هي بغداد والموصل وكركوك والبصرة.
وفي السنوات الأخيرة، نشطت العديد من المؤسسات العراقية في إقامة حفلات لعشاق هذا الفن العريق، ومن بينها "المحطة" التي يقول مدير الاتصال والتواصل فيها محمد فوكس الذي يقول إن مؤسسته تحرص على ديمومة الأنشطة الثقافية والفنية عن طريق إقامة حفلات منتظمة ومستمرة للموسيقى الكلاسيكية والشرقية بمستوى عال من التنظيم، كجزء أساسي لإثراء الحركة الثقافية في العراق.
ويؤكد فوكس للجزيرة نت أن الحفل الأخير الذي نظمته المؤسسة مع فرقة "دار السلام" كان بهدف الحفاظ على أهم معالم هوية المجتمع العراقي، وهو فن المقام.
ويلفت إلى أن "المحطة" حرصت على أن يكون للمقام العراقي جزء مهم من برامجها كمبادرة لإحياء التراث العراقي، وإعادته إلى واجهة الفعاليات الثقافية، وأهمية هذه الأنشطة تكمن بالحفاظ على هذا الموروث، عن طريق تشجيع شرائح مختلفة من الشباب العراقي على التفاعل معه ونقله واستمراريته "باعتباره الهوية الأساسية لحضارة وتاريخ العراق".
"الجزيرة"