وضع قرار المحكمة الاتحادية العليا بعدم دستورية إدارة إقليم كردستان لملفه النفطي حكومة بغداد في موقف صعب في ظل تمتع الأكراد بمقومات تمنحهم القدرة على المناورة لفرض مبدأ "التوافق السياسي"، فيما يجمع مراقبون على أن القرار سيخضع في النهاية لـ"المساومات" بين القوى بعد تجاوزها أزمتها الحالية في تشكيل الحكومة الجديدة.
وكانت المحكمة الاتحادية أصدرت في 15 فبراير (شباط) الماضي قراراً يلزم الإقليم "تسليم إنتاج النفط من حقول الإقليم إلى الحكومة الاتحادية، والسماح لوزارة النفط وديوان الرقابة المالية الاتحاديين ’بمراجعة العقود المبرمة’، واعتبرت قانون النفط والغاز المشرع في الإقليم ’مخالفاً للدستور’".
ووصفت رئاسات الإقليم، الحكومة والبرلمان ومجلس القضاء ورئاسة الإقليم عقب اجتماع الإثنين الماضي، القرار بـ"غير المقبول لكونه يخالف نص ومبادئ النظام الاتحادي، وهو بمثابة تعديل غير دستوري للدستور ويسلب صلاحيات الأقاليم لصالح السلطة الاتحادية"، وأكدت "تمسك الإقليم بحقوقه وصلاحياته، وسيسلك كل السبل القانونية والدستورية للحفاظ عليها".
ويثير القرار تساؤلات حول السيناريوهات المقبلة، وسط صعوبات تعترض خطوات وآلية تطبيق القرار فعلياً بين الحكومتين اللتين تعانيان من خلاف مزمن لأكثر من عقد حول الملف النفطي، في بلد يعاني من إرباك في تطبيق القوانين والخطوات الدستورية.
توافقات سياسية
الباحث الكردي في "الشؤون السياسية والأمنية" شاهو القرداغي يرى في أبعاد القرار أنه "سياسي يستهدف الحزب الديمقراطي (بزعامة مسعود بارزاني)، الذي يدير ملف نفط الإقليم، بعد دخوله في التحالف مع التيار الصدري في مواجهة الأطراف الشيعية التقليدية الأخرى"، وبشأن إمكانية تنفيذه على أرض الواقع قال، إن "حكومة بغداد الحالية هي حكومة تصريف أعمال، ومن المستبعد أن يحصل حالياً أي اتفاق أو تسوية، وسيؤجل إلى ما بعد تشكيل الحكومة الجديدة، وإذا ما نجح التيار الصدري مع حليفيه الديمقراطي وتحالف السيادة من تشكيل الحكومة، فمن المرجح ألا ينفذ القرار، في بلد تطغى فيه التسويات السياسية على المواد الدستورية أو القانونية منذ أن شهد أول انتخابات نيابية عام 2005".
وشككت القوى الكردية في "توقيت" صدور القرار، وتعتقد أنه جاء بناء على "ضغوط سياسية" مارستها قوى في بغداد في ظل العقبات التي تواجه خطوات تشكيل الحكومة الاتحادية، خصوصاً وأن القرار اتخذ بعد مضي سنوات، وفقاً لشكويين تعودان إلى عامي 2012 و2019.
ويتفق رئيس "مجموعة المورد للدراسات الاستراتيجية" نجم القصاب مع رؤية القرداغي في أن حلول الأزمة "خاضعة لظاهرة التوافقات السياسية، خصوصاً بين الزعامات في أربيل وبغداد"، مضيفاً أن "القرارات وكل ما يتعلق بالموازنات لن تجد النور من دون تناغم أو تفاهم بين القوى، ولدينا تجارب مع العديد من القرارات السابقة التي بقيت حبراً على ورق؛ لأن الكرد لم يقتنعوا بها، هذا الخلاف يحتاج إلى تفاهم والعمل على استعادة الثقة بين الحكومتين".
تباين في التفاسير
العضو البارز في "الاتحاد الوطني" طارق جوهر أكد من جانبه أنه "لا خيار سوى المفاوضات وفق الأسس الدستورية وتحديد ما يقع على كل طرف من حقوق وواجبات"، مبيناً أن "العقبة الأهم تكمن في غياب قانون للنفط والغاز لتنظيم العلاقة بين الأقاليم والمحافظات مع الحكومة الاتحادية، كما جاء في المادة 112 من الدستور الفقرة الأولى التي تنص على مشاركة الطرفين في إدارة النفط والغاز، وهذه تحتاج لأن تنظم بقانون، كما أن الحكومة والبرلمان والاتحاديين يتحملان مسؤولية عدم تشريع القانون بعد كل السنوات التي مضت".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبحسب مستشار رئيس الإقليم دلشاد شهاب، فإن "القرار ليس له أي أثر رجعي، وهو نافذ وملزم والإقليم يحترم المؤسسات العراقية"، ونقلت قناة "روداو" المقربة من رئيس الإقليم نيجرفان بارزاني عن شهاب قوله، إن "المحكمة بذاتها نشأت في ظروف استنثائية وقرارها يتجاوز الدستور، وعليه فيرى الإقليم ضرورة إعادة تشكيلها وفقاً لقانون جديد"، موضحاً أن "قانون النفط والغاز في الإقليم لا يزال نافذاً، لكن الحوار سيستمر مع بغداد لإيجاد الحلول، فالمسألة سياسية واقتصادية في آن واحد".
ويوضح جوهر أن "الحكومتين سبق وتفاهمتا على صيغة تمنح أربيل صلاحية إدارة ملفها النفطي وفق قانون النفط المشرع في الإقليم، في حال عدم تشريع القانون الاتحادي عام 2007"، ويعتقد أن "مواد الدستور واضحة، لكن هناك تبايناً في التفسير، وفي كل الأحوال فإن إدارة الموارد النفطية لا تدخل ضمن الصلاحيات الحصرية وفقاً للمادة 110 من الدستور، وتركت الأمر للعلاقة بين الطرفين على أن تنظم بقانون يراعي حقوقهما، والذي من دونه من المستحيل أن تحل الخلافات".
ومن المنتظر أن تدخل الحكومتان في اجتماعات، عقب إعلان وزارة النفط تشكيلها لجنة من ستة أشخاص من قبل شركة النفط الوطنية "سومو" بتكليف من مجلس الوزراء الاتحادي استناداً إلى قرار المحكمة الاتحادية، "لتمارس مهامها على كافة العمليات البترولية باستثناء العقود النفطية على أن تباشر من يوم تاريخ صدور الأمر في 25 فبراير عام 2022".
ترحيل الأزمة
وأفرز القرار تساؤلات حول طبيعة خيارات بغداد لتنفيذ القرار، وإمكان لجوئها إلى استخدام القوة على غرار الإجراءات العقابية التي كانت اتخذتها ضد الإقليم رداً على خوضه استفتاء للانفصال عام 2007.
ويرى القرداغي، أن "صناع القرار في الإقليم يبدو أنهم لن يخضعوا وغير آبهين بالتبعات، معولين على الخلافات السياسية في بغداد، على اعتبار أن القرار يعتبر سياسياً أكثر من كونه دستورياً في هذا التوقيت تحديداً، كما أنه من المستبعد أن تلجأ بغداد لفرض عقوبات على الإقليم في وقت تمر فيه البلاد بانسداد سياسي إثر الخلافات على انتخاب رئيس الجمهورية، ومن بعده رئيس الوزراء".
وكذلك يتوقع الباحث نجم القصاب "ألا تتجه بغداد لخيار التصعيد مع أربيل، التي تملك حكومة وبرلماناً وقوة، فضلاً عن تمتعها بعلاقات إقليمية ودولية، ما يجعلها قادرة على عدم الالتزام بقرارات بغداد، والأخيرة أيضاً لا تريد أن تخسر الإقليم عبر تلويحه مجدداً بورقة الانفصال"، لافتاً إلى أن "رئيس الحكومة الحالي مصطفى الكاظمي، وحتى سلفه السيد عادل عبد المهدي، لم يمارسا أسلوب التصعيد مع الكرد، بخلاف حكومتي نوري المالكي وحيدر العبادي، اللتين خسرتا حينها كثيراً من النفوذ والدعم السياسي، فالكرد كانوا وما زالو يوصفون ببيضة القبان في اختيار رئيس الحكومة"، متوقعاً أن "تحصل تفاهامات وتنازلات من الطرفين بمجرد أن يتم تشكيل الحكومة الجديدة، على الأقل من أجل التوصل إلى حل وقتي، وإذا لم يتم تشريع قانون النفط والغاز فإننا سنواجه أزمة تلو الأخرى".
حلول متاحة
جوهر استبعد أيضاً لجوء بغداد لخيار القوة قائلاً، إن "الأزمة قابلة للحل، وقرار المحكمة يحتاج إلى إعادة النظر في ظل الملاحظات من قبل فقهاء القانون والدستور على ما يلحق من إجحاف بحق الإقليم فيما يتعلق بالشراكة في إدارة الملف"، وأضاف "ربما صدرت أربيل النفط من دون أن ترسل الإيرادات إلى الخزينة الاتحادية، لكن في المقابل بغداد ومنذ عام 2014 لم تكن ترسل حصة الإقليم من الموازنة الاتحادية، بل كانت تخضع لاستقطاعات فضلاً عن خفضها من 17 إلى نحو 12 في المئة".
مكامن الضعف والقوة
وتذهب بعض الرؤى إلى أن آلية تنفيذ القرار تخضع لمعادلة عناصر القوة لكل من الحكومتين، وحول طبيعة تلك العناصر يرى القرداغي، أن "العديد من القوى الكردية غير مطلعة على ملف النفط في الإقليم الذي يتسم عموماً بالغموض، ويستوجب على حكومة أربيل أن تسعى لمزيد من الشفافية في هذا القطاع عبر مكافحة الفساد والهدر الذي يشوبه"، وأضاف أن "القرار قد يضعف من موقف حكومة الإقليم بصغية أو أخرى، خصوصاً الأحزاب الحاكمة المتهمة من قبل القوى الكردية المعارضة بالفساد من خلال احتكارها الملف والإيرادات عموماً، بينما الإقليم يعاني من أزمة اقتصادية خانقة في مقدمتها عجز الحكومة عن دفع مرتبات الموظفين".
في المقابل يرى جوهر أن "بغداد تحتاج إلى حكومة قوية غير خاضعة لإملاءات القوى السياسية المتصارعة، إذ كلما اتفقت أربيل مع بغداد على صيغة تتراجع الأخيرة عن التزاماتها تحت ضغوطات سياسية، ربما أربيل أيضاً تنصلت من بعض الاتفاقات، لكن غالباً ما كان السبب ضعف القرار لدى حكومة بغداد، عموماً اليوم نحتاج إلى صيغة توافقية مؤقتة لحين تشريع قانون النفط والغاز الاتحادي"، واستدرك أن "الخلافات بين القوى عموماً تفرز حكومات ضعيفة، وعلينا الإقرار بأن حكومتي أربيل وبغداد كلاهما تعانيان معاً من نفس المشكلة، التي انعكست سلباً على الاستراتيجية المتعلقة بملف النفط، لكن يجب ألا ننسى أن العقلية السائدة لدى النخبة السياسية في بغداد ما زالت تتعامل بعقلية النظام المركزي القديم".
وتزامناً مع إعداد هذا التقرير، أعلن رئيس حكومة كردستان مسرور بارزاني خلال مؤتمر صحافي صباح الخميس 3 مارس (آذار) الحالي، استعداده "للحوار مع بغداد للتوصل إلى حل جذري مبني على الدستور"، وأوضح أن "الدستور منح صلاحيات للأقاليم، ولن نتازل مطلقاً عن هذه الحقوق، فقرار المحكمة الاتحادية لا يصب في مصلحة العراقيين كافة، وليس الأقليم فقط"، ودعا البرلمان الاتحادي إلى "إعادة تشكيل المحكمة الاتحادية وفقاً للمادة 92 من الدستور، وتشكيل مجلس الخدمة الاتحادي، وتطبيق المادة 140 من الدستور (الخاصة بمصير مناطق موضع النزاع)".
ووجه حديثه للعراقيين قائلاً، "إننا إخوتكم ونفتخر بذلك، ونحن جزء من العراق الاتحادي، لكن هناك من يعمل على تعليق فشله على الإقليم والحكومة الاتحادية لم تتمكن إلى اليوم من توفير الخدمات الأساسية لكم، وأؤكد لكم أننا لم نسلب حق أحد، لكن لن نقبل أن يسلب حقنا أحد"، وتابع، "اليوم يوجد في الإقليم نحو مليون مواطن من مناطق الوسط والجنوب، وستبقى أبواب كردستان مفتوحة لكم، لأنها دائماً كانت ملاذاً للمنكوبين"، على حد وصفه، منوهاً إلى أن "الإقليم يتعرض لضغوطات كبيرة جداً، لكننا متفائلون في تجاوزها".