بعدما دمرتها الحرب، عادت الحياة إلى مدينة الموصل القديمة في شمال العراق، فقد نشط العمال تحت مئذنة جامع النوري الحدباء التي تعود للقرن الثاني عشر، لإزالة الطوب والمرمر المتبقي ممّا دمره متطرفو "داعش".
وشكّل حيّ المدينة القديمة بشوارعه المتعرجة، الملاذ الأخير الذي تحصّن فيه عناصر تنظيم داعش الذين قاتلوا قتالاً شرساً قبل طرده من المدينة في صيف العام 2017.
مادة اعلانية
كما تنتشر في المدينة القديمة اليوم ورش بناء وترميم ضمن إطار مشروع "إعادة إحياء روح الموصل" الذي أطلقته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو)، وفق تقرير لوكالة "فرانس برس".
من اعمال التجديد لمسجد النوري في المدينة القديمة في الموصل - رويترز
بنيت قبل 850 عاماً
في حين، لم يبق في الساحة المحيطة بمسجد النوري، من المئذنة الحدباء التي بنيت قبل 850 عاماً سوى القاعدة، تغطيها قطعة من البلاستيك.
وترجع تسمية مسجد النوري إلى بانيه نور الدين الزنكي في العام 1172. ودُمر المسجد ثم أعيد بناؤه في العام 1942. ومن هناك، قام زعيم تنظيم داعش السابق أبو بكر البغدادي بأول ظهور له وأعلن في صيف العام 2014 قيام "الخلافة"، حسب زعمه.
من جانبه، قال عمر طاقة، أحد مهندسي اليونسكو المشرفين على الأعمال في الموقع، "المئذنة الحدباء تمثل أيقونة الموصل، هي رمز المدينة"، مضيفاً "أهل الموصل كلهم أمل أن يروا المئذنة الحدباء تعود إلى ما كانت عليه وأن تعود إلى المكان نفسه".
صورة تظهر منظرا لتجديدات مسجد النوري والمنطقة المحيطة بالبلدة القديمة في مدينة الموصل العراقية - فرانس برس
11 عبوة ناسفة.. وأطنان من الركام
كما أضاف "في مصلّى الجامع فقط، عثرنا على 11 عبوة ناسفة غير منفجرة معدة للتفجير، قسم منها كان مزروعاً داخل جدران المصلى".
أما الجزء الأوسط من المسجد نفسه الذي تعلوه قبّة، فقد نجا من الدمار، وهو عبارة عن هيكل فارغ، تسند قناطره ألواح خشبية، فيما تعلو أعمدة المرمر الرمادية التي تطوقّه زخرفات زرقاء.
وبعد إزالة 5600 طن من الركام، تنطلق أعمال ترميم المئذنة في آذار/مارس على هامش زيارة للمديرة العامة لليونسكو. بعد ذلك تبدأ الأعمال على المسجد هذا الصيف. ويتوقع أن ينتهي العمل في الموقع بحلول نهاية العام 2023.
صورة تظهر منظرا لتجديدات مسجد النوري والمنطقة المحيطة بالبلدة القديمة في مدينة الموصل العراقية - فرانس برس
موقع غني بالمفاجآت
وفي انتظار إعادة بناء مطابقة لما كان عليه الموقع قبل التدمير، يجري حفظ القطع الأكثر هشاشة في مخزن. من بينها، أجزاء المنبر القديم الذي منه أعلن الزعيم السابق لتنظيم داعش قيام "الخلافة" في العام 2014، فضلاً عن قطع محراب.
كما تتوزع قطع من الطوب على رفوف المخزن سيُستخدم 45 ألفاً منها، أي الثلث، في إعادة بناء المئذنة، وفق ما شرحه عمر طاقة.
ولا يزال الموقع غنياً بالمفاجآت. فقد تمّ العثور في كانون الثاني/يناير على قاعة صلاة تحت الأرض تعود للقرن الثاني عشر.
وجمعت اليونسكو من أجل مشروع "إعادة إحياء روح الموصل" 110 مليارات دولار. وبالإضافة إلى مسجد النوري، العمل قائم لترميم كنيستي الطاهرة والساعة، ومئات المنازل، ومدرسة الحيّ.
كما خلقت أعمال الترميم التي كلّفت بها شركات محلية، أكثر من 3100 فرصة عمل، أكثر من نصفها لشباب تلقوا تدريباً في الحرف التراثية وإعادة ترميم المباني، وفق اليونسكو.
من أعمال التجديد لكنيسة الطاهرة للسريان الكاثوليك في المدينة القديمة بالموصل - فرانس برس
كنيسة عمرها 800 عام
وعادت الحياة إلى طبيعتها في زوايا الحي. رغم أن مبان كثيرة لا تزال مهدمة، إلا أن المقاهي والورشات والأفران فتحت أبوابها.
وعلى مقربة من هنا، تقع كنيسة الطاهرة للسريان الكاثوليك التي لا تزال تنتظر ترميمها. ويقول المهندس أنس زياد إن سقفها وأساساتها انهارت نتيجة القصف.
ويمكن رؤية حفرة في الأرض حيث كان يقع بهو الكنيسة التي شيّدت في العام 1862 لتشكّل امتداداً لكنيسة مجاورة يبلغ عمرها 800 عام. في المجمع الذي يضمّ أربع كنائس، أقام تنظيم داعش إداراته. وقرب باحة الكنيسة، حُطّمَت صلبان ومنحوتات لوجوه ملائكة كانت معلّقة على الجدران.
صورة تظهر قطعا أثرية تم انتشالها من كنيسة (الطاهرة الكبرى) في البلدة القديمة بمدينة الموصل شمال العراق - فرانس برس
نقوش تعود للحقبة العثمانية
في الأزقة الضيقة، عشرات المنازل قيد الترميم. بعضها عمره بين 100 و150 عاماً. خلف الأسطح والباحات المموهة بخيوط الشمس، تظهر الواجهات المرمرية الأنيقة المزخرفة بعضها بنقوش تعود للحقبة العثمانية.
ويقول المهندس مصطفى ناظم المشرف على إعادة ترميم المنازل "لدينا في المرحلة الأولى تقريبا 44 بيتاً، أغلبها اكتمل وستسلّم في نهاية شهر آذار/مارس". يبقى 75 بيتاً لترميمه بحلول نهاية العام.
ويشمل المشروع أيضاً، وفق المهندس، "البنية التحتية، وترتيب الخطوط الكهربائية الخارجية للشارع، وكذلك أعمدة إنارة للشارع، ومد أنابيب مياه الشرب ورصف الشارع بحجر البازلت".
مسجد النوري أنقاضاً بعدما فجره داعش
يذكر أنه في عام 2014، أعلن زعيم تنظيم داعش المقتول أبو بكر البغدادي إقامة خلافة التنظيم المزعومة من مسجد النوري في الموصل، الذي كان يشتهر بمئذنته المائلة (الحدباء)، قبل أن يفجره متطرفو التنظيم في يونيو/حزيران 2017 مع اقتراب القوات العراقية.
بدورها، قدمت الإمارات 50.4 مليون دولار لتمويل المشروع مع التركيز على إعادة إعمار المسجد، فيما قدم الاتحاد الأوروبي 25 مليون دولار.
ويعود قرار اختيار الموصل لمشروع إعادة الإعمار بدلا من مدن عراقية أخرى لمكانتها التاريخية التي جعلت منها بوتقة انصهار حضاري.