كيف قضى الفساد في العراق على عشرات الأبرياء بعبّارة الموصل؟

آخر تحديث 2022-03-23 00:00:00 - المصدر: اندبندنت عربية

لم تفارق مشاهد ابتلاع مياه نهر دجلة أكثر من 100 ضحية، معظمهم نساء وأطفال، مخيلة العراقيين إثر انقلاب عبّارة تابعة لأحد المرافق السياحية في مدينة الموصل.
ففي مساء يوم الخميس الـ 21 من مارس (آذار) عام 2019، هزت كارثة إنسانية العراق، إذ غرقت عبّارة تحمل أكثر من 250 شخصاً في نهر دجلة، تعود ملكيتها إلى مشروع جزيرة "أم الربيعين" السياحية في الموصل، وتستخدم هذه العبارة لنقل الأشخاص من منطقة الغابات السياحية إلى الجزيرة بمسافة لا تتجاوز الـ80 متراً عبر نهر دجلة، وهي مصممة لنقل ربع العدد الذي كان على متنها وقت الحادثة.
وعلى الرغم من مرور فترة ليست بالقصيرة على تلك الكارثة التي خلدت في ذاكرة العراقيين، لا سيما أهالي الموصل، حظيت المدينة السياحية بإجراءات ترقيعية لا ترقى إلى حجم الكارثة الإنسانية.
وتسببت هذه الحادثة في صدمة وغضب شعبيين وحزن شديد، بسبب الإهمال وانعدام إجراءات السلامة والأمان والمجازفة بحياة الناس، إذ تم تحميل هذه العبارة أكثر من طاقتها لزيادة الكسب المالي لمالكي المشروع السياحي.
وتبلغ أجرة كل راكب في هذه العبارة 1500 دينار عراقي (1.2 دولار)، وتقطع المسافة إلى جزيرة "أم الربيعين" عشرات المرات يومياً.
وصوت مجلس النواب العراقي يوم الأحد الـ 23 من مارس 2019 على إقالة محافظ نينوى نوفل حمادي العاكوب ونائبيه عبدالقادر عبدالله وحسن ذنون بناء على مقترح رئيس الحكومة آنذاك عادل عبدالمهدي، لإهمالهم وتقصيرهم في أداء الواجب والمسؤولية وهدر المال العام واستغلال المنصب الوظيفي.

كذلك اعتبر البرلمان العراقي ضحايا الحادثة "شهداء" ولذويهم الحق باللجوء إلى القضاء.
مكان مهجور

وتعليقاً على الكارثة قال محمد حمدون وهو أحد سكان محافظة نينوى، إن "ذكرى العبّارة لا يمكن أن تنسى، كما أن المنطقة السياحية في الغابات التي كانت مقصداً لآلاف العوائل الموصلية ومتنفساً للسياح القادمين من المحافظات الجنوبية، أصبحت اليوم مهجورة ومتروكة وتحيط بجوانبها شواهد من ذلك اليوم المشؤوم حين جرف تيار النهر الغاضب أجساد الضحايا ممن استقلوا عبّارة صدئة غير مناسبة تماماً لتحمل على متنها مئات ممن استقلوها للانتقال إلى الجانب الآخر من النهر، لكنهم سقطوا إثر انقلابها".

إجراءات ترقيعية

بدوره، اعتبر فاضل عبدالله، وهو أحد أهالي الموصل، أن "ما حظيت به المدينة من إجراءات بعد تلك الحادثة ترقيعية تبقي احتمال وقوع حوادث مماثلة قائماً، وذلك لغياب المراقبة والتفتيش عن الآليات التي تتبعها المرافق السياحية ويفتقر القائمون عليها إلى الخبرة المطلوبة، فيزداد احتمال التعرض إلى الحوادث نتيجة رغبة القائمين على تلك المرافق في تحقيق الربح السريع من دون التفكير بأرواح الناس، مثلما فعل المكلف بتشغيل العبارة الكارثية، فدعا العشرات للصعود على متنها وهي متهالكة وتسير بطريقة بدائية من دون أن تحمل في سبيل تشغيلها أي معايير خاصة بالسلامة المهنية المطلوبة في تلك الحالات.

المرافق السياحية ليست الوحيدة

وكشف المواطن الموصلي الآخر أحمد قاسم أن "المرافق السياحية ليست الوحيدة التي يغيب عنها اتباع الإجراءات الخاصة بالسلامة المهنية، فالمكلفون بتفتيش ومراقبة مثل تلك الإجراءات يعمدون من خلال جولاتهم التدقيقية إلى مراقبة المطافئ والتأكد من تاريخ نفادها إلى جانب أمور أخرى تعد ثانوية، من دون التوسع في تحقيق إجراءات أوسع من خلال مراقبة الإجراءات الأخرى، إذ لم تخضع العبّارة التابعة لجزيرة أم الربيعين للتفتيش والإجراءات الخاصة بالسلامة المهنية أو التأكيد على التزام مشغليها بمعايير الاستخدام مثلما هو موجود في  المصاعد، حيث يتم تحديد عدد الركاب أو الأوزان التي يحتملها المصعد".

السلطات لم تعتبر

في موازاة ذلك، رأى الباحث السياسي نبيل جبار العلي أن "السلطات لم تعتبر من حادثة العبارة في الموصل، لتعيد النظر بإجراءات السلامة العامة في البلد، ولم تصدر السلطات أيضاً أي قرارات أو توجيهات مهمة أو حتى درس سياسات عامة باتجاه إعادة النظر في السلامة العامة عبر المرافق السياحية والعامة في البلد، فحتى الطرقات ما تزال إجراءات السلامة فيها مفقودة وتحصد آلاف الأرواح سنوياً لأسباب تتعلق بوجود مطبات أو حفر أو فقدان الطرقات للتخطيط أو الإنارة أو السياجات الواقية". 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


وجه آخر للإرهاب

وأدى الإهمال الحكومي الذي طاول معظم المؤسسات العراقية بعد العام 2003 إلى حوادث مميتة، أصبحت جزءاً رئيساً من حياة العراقيين خلال السنوات القليلة الماضية، بعدما كانت حوادث الإرهاب مسيطرة تماماً على المشهد، وباتت الطرق المتردية والحرائق والغرق في مياه دجلة والفرات أهم أسباب وفاة العراقيين، وما فاقم تلك المشكلة هو ضعف التعزيزات لفرق الدفاع المدني وغياب إجراءات السلامة.

وكشفت وزارة الصحة العراقية في وقت سابق عن عدد ضحايا الحوادث المرورية الذي بلغ نحو 100 ألف قتيل ومصاب خلال السنوات الـ 10 الماضية، لتكون بذلك وجهاً آخر للإرهاب يحصد أرواح المدنيين يومياً، فيما تمتص الحكومة غضب ذوي الضحايا من خلال تعويضهم بمبلغ مادي مثلما حدث في حادثة العبّارة وحرائق المستشفيات التي تؤوي مرضى كورونا وجرت العام الماضي.
وعلق الباحث السياسي جبار العلي بأن "السلطات عادة ما تسوف القضايا المؤسفة بتشكيلها لجان التحقيق التي تعمل من خلالها على امتصاص غضب الشارع، ثم تعوض ذوي الضحايا عبر شمولهم بقانون الشهداء الذي يمنح ذويهم رواتب وتعويضات وميزات أخرى". 

غياب إجراءات السلامة

من جهة أخرى، قال الباحث السياسي علي البيدر إنه "لا يوجد في العراق اهتمام بإجراءات السلامة المهنية، لا من مؤسسات الدولة ولا حتى القطاع الخاص، كما أن الوعي الاجتماعي بخصوص السلامة ما يزال ضعيفاً، وهناك إهمال متعمد للتعامل مع قضايا السلامة بجدية".
وتابع، "نحتاج إلى توعية المجتمع عبر برامج كثيرة تبدأ من المدرسة وصولاً إلى الإعلام وليس انتهاء بمنظمات المجتمع المدني ومؤسسات الدولة".
ولفت البيدر إلى أنه "يتوجب تفعيل منظومات السلامة من قبل المؤسسات الحكومية قبل البدء بأي مشروع، كما أن هناك إجراءات بيروقراطية تتعلق بالتعامل مع ذوي الضحايا، ولا تخلو من شبهة فساد تتعلق بابتزاز المستفيدين من التعويضات، وهذه قضية يجب الوقوف في وجهها".
ورأى أنه "بالنسبة إلى المتسببين بالجريمة فإنهم محميون من قبل جهات مسلحة ولا يمكن محاسبتهم".

الفساد والتقصير الحكومي

من جهة أخرى، ذكر الباحث صالح لفتة أنه "عند استذكار هذه الفاجعة الأليمة يتبادر إلى الذهن محبة الشعب العراقي للحياة والحاجة إلى الفرح والتنزه، وكيف قضى الفساد والتقصير الحكومي على حياة عشرات الأرواح البريئة، فعبّارة المدينة السياحية لا تحتمل العدد الذي صعد على متنها، ولو كانت هناك مدن ومتنزهات أخرى لما أصبح الضغط على مكان واحد ولتوزع الناس في أكثر من جهة". وأضاف، "مثل تلك الحوادث تجري في كل بلدان العالم، لكن الدول الناجحة تتعلم من الأخطاء لتتجاوز تكرارها، ويمكن للحكومة العراقية أن تحول دون وقوع الكوراث مستقبلاً من خلال عدم السماح بتجاوز القوانين من قبل أي مواطن حفاظاً على الأرواح".

وأشار لفتة إلى أن "الأموال لن تعيد لذوي الضحايا أبناءهم، ولن يعوض أي مبلغ مالي نفساً بريئة أزهقت بسبب خطأ يمكن تجاوزه، لكن التعويض مجرد مواساة لذوي الضحايا واعتراف ضمني بالتقصير، وعلى الدولة منحه وعدم نسيان عائلات الضحايا وشمولهم بالرواتب والحقوق التي توفر لهم العيش الكريم".