في سباق رئاسة الجمهورية.. هل أخطأ المستقلون؟

آخر تحديث 2022-03-29 00:00:00 - المصدر: الترا عراق

لعل التذكير بالبديهيات يصبح أمرًا غاية في الضرورة حين تكون الأجواء ضبابية ومشحونة ومتناقضة؛ فأصعب الإشكاليات تبدأ محاولات حلها من طرح أبسط الأسئلة وأكثرها بداهة، والعمل السياسي ليس استثناءً من هذا، فالسياسي في مثل هذه الأجواء عليه أن يُدرك جيدًا، وقبل أيّ شيءٍ آخر، ماذا يريد؟ ومن أين ينطلق؟ ويسأل ما هي أدواته المتوفرة؟ وأيّها أكثر انسجامًا مع ما يريد؟ أي بمعنى أن يملك، على طول الخط، حدًا أدنى من الرؤية على أقل تقدير.

كان من الأفضل للكتل الناشئة على المدى البعيد أن لا تضع شروطًا كتلك التي أعلنت عنها لحضور جلسة انتخاب رئيس الجمهورية

في مناسبات عديدة سابقة ذكرنا أن واحدًا من أهم التحديات التي ستواجه الكيانات الناشئة - وأعني هنا المنبثقة عن الحراك الاحتجاجي - هو وقوعها في منطقة عمل متنافرة لناحية معايير العمل. فهي من ناحية تمثل جمهورًا ما زال يعيش الحالة الثورية إضافة لطبيعة تصوراته وسلوكياته الناتجة عن سياق تاريخي مُتأزم، ولذا فأن معاييره، بشكل عام، غير منسجمة مع متطلبات العمل السياسي.

اقرأ/ي أيضًا: النواب المستقلون وامتحان السبت

ومن ناحية اخرى تجد هذه الكيانات  نفسها مضطرة للعمل في فضاء سياسي معاييره أقرب لمعايير العمل المافيوي منه إلى السياسي ما يجعلها على الدوام بين مسارين ينتهيان عند نقطة خسارة معنى وجودها بوصفها كيانات سياسية تسعى لتحقيق رؤى معينة تمثل اتجاهات جماهيرها وتطلعاته، أي إما انزلاقها نحو خطاب شعبوي بالكامل، أو ذوبانها في إطار علاقات زبائنية كباقي القوى السياسية التقليدية. وهذا ما لم تستطع الكتل الناشئة الخلاص منه، فبأول اختبار وقعت تحت تأثير التوتر الناتج عن هذه الثنائية ولم تستطع اجتراح مسارٍ ثالث يوازن بين متطلبات العمل السياسي ومعايير جمهورها وتصوراته.

أُفكر في أن الكتل الناشئة كان من الأفضل لها على المدى البعيد أن لا تضع شروطًا كتلك التي أعلنت عنها لحضور جلسة انتخاب رئيس الجمهورية لعدة أسباب منها أن قائمة المطالب طويلة وغير محددة وغير جوهرية، كما أنها ليست نافعة لناحية ديمومتها وديمومة خطابها.

لا أعلم إن كان هناك ثمة اتفاقات جانبية لم يعلن عنها، لكن إذا كانت هذه الكتل قد دخلت فعلًا إلى الجلسة بناء على موافقة زعماء التحالف الثلاثي على تلك الشروط المُعلنة، فقد خدعت نفسها بنفسها وباعت مواقفها بلا مكاسب حقيقية؛ فمثل هذه المطالب يمكن تسويفها بسهولة، ولنا تاريخ طويل في تسويف أكثر القضايا أهمية، فلا قيمة ولا أثر لهذه التواقيع، فهي مجرد حبر على ورق.

قد يكون من المبكر، ومن المتعسر أيضًا، تربية الجمهور على فكرة أن المواقف السياسية لا تحتاج أن تُربط بمطالب صغيرة لكي تُتَّخذ

إن دوافع إعلان هذه الكتل عن شروطها قبل دخول الجلسة مفهومة جدًا، ومفهوم أيضًا لماذا اختارت هذه المطالب بالذات، فهي مطالب ضرورية وتمس حياة الناس بالصميم، ولكن السؤال هنا هو إلى أي حد ستبقى هذه الكيانات بحاجة إلى حشد المبررات لجماهيرها قبيل اتخاذ أي موقف سياسي؟ وإلى متى ستبقى مضطرة لرفع الحاجات البسيطة كجزء من تبرير هذه المواقف؟ وإلى أي مدى ستكون هذه الآلية مُجدية في توفير مصادر ديمومة لهذه الكيانات؟

اقرأ/ي أيضًا: مقتدى الصدر يتحدث عن تجاوب من المستقلين ويتعهد برد الجميل

لا بد لهذه الكتل أن تعي وتدرك جيدًا حجم الأزمة التي تواجهها  بفعل وقوعها في منطقة عمل متناقضة لناحية معايير العمل كما أسلفنا، فلو أدركت هذا وعملت على الهروب من كماشة تأثيرات التوتر بين المنطقتين عبر ردم الفجوة بين منطقتي السياسة والشارع ومعاييرهما المتناقضة، لتغيرت أولوياتها وكان سلوكها غير الذي شهدناها؛ فبالنسبة لكتل تناضل لأجل حيازة جزء من مساحة التأثير السياسي، أعتقد أن الاولوية هنا ستكون للتفاوض على انتزاع بعض المواقع المؤثرة من القوى المهيمنة وليست للتفاوض على خفض أسعار البانزين او إعادة المفسوخة عقودهم إلى المؤسسة العسكرية مثلًا!

أقول هذا انطلاقًا من فكرة مفادها أن طبيعة الموقع وقربه من مصدر القرار هو المحدد الأول والرئيس لحجم وأهمية ومديات تأثير الفاعلين، فلا تأثير من دون موقع مؤثر. نعم هذه بديهيات، وأفترض أنها بديهيات ليست غائبة عن قيادة هذه الكتل، وأفهم وأتفهّم جيدًا لماذا اضطرت هذه الكتل للقفز على هذه البديهيات؛ ولكن من الضروري جدًا أن تعي وتُدرك أن هذا السلوك له تبعات كارثية على المدى البعيد؛ فأن تربي جمهورك على فكرة أن كل موقف سياسي سيصدر منك يحتاج إلى حملة تبرير لهذا الموقف، فهو أمر لا يصب في عملية إدامة خطابك أبدًا بل يصب في عملية تآكله مستقبلًا، فمثل هذا المسار سينتهي بك، عاجلًا أو آجلًا، إلى لحظة لن تجد فيها ما يكفي من التبريرات لمواقفك، وحينها لا عاصم من نقمة جمهورك، فتحصد ما زرعت.

قد يكون من المبكر، ومن المتعسر أيضًا، تربية الجمهور على فكرة أن المواقف السياسية لا تحتاج أن تُربط بمطالب صغيرة لكي تُتَّخذ، ولكن على الأقل، في الظرف الراهن، يفترض أن تبدأ هذه الكيانات في التأسيس لخطاب نفعي ينطلق من رؤية جوهرية تشتبك مع جذر الأزمة في البلاد، لا الانسياق نحو ما يحول نيابة الشعب إلى وظيفة تتلخص بتعقيب المعاملات وبالتالي تحويل مجلس النواب الى مجلس بلدي موسع!

وبمعنى أكثر بساطة أن تقود هذه الكتل جماهيرها لا العكس وفقًا لأولوياتها لا أولويات جماهيرها، أي أن لا تعتمد مغازلة الجمهور كاستراتيجية وحيدة فهي أداة ربح سريع لطالما أطاحت بأصحابها.

اقرأ/ي أيضًا:

الفرصة التاريخية للمستقلين: لمن سيحسم الأمر؟

البارتي يتحدث عن حسم الفوز لمرشحه و"امتداد" تؤكد: الدماء لا تُشترى