بعد إعادة إعماره وإضفاء التصميمات التراثية البغدادية، التي عمّقت شذى أصالته، افتُتح المركز الثقافي الأكبر في العراق أو (شارع المتنبي)، الذي يجسد أصالة الهوية البغدادية. ورافق افتتاح الشارع احتفالات رأس السنة الميلادية، ما شجع الشباب على أن يقضوا نهاراتهم فيه، يتصفحون آخر المطبوعات الأدبية والعلمية والفنية، ويقتنون النادر والمفيد والممتع من الكتب والصحف والمجلات والصور والمستلزمات الدراسية والتذكارات.
وفي سعيها لإحياء الشوارع الثقافية، وتأكيداً للهوية البغدادية، دعت أمانة بغداد المواطنين والمختصين لحضور الأمسيات الرمضانية في شارع المتنبي، حيث تتخلل هذه الأمسيات، عروض مسرحية وسينمائية وخيال ظل، إضافة إلى فعاليات فنية وثقافية أخرى. كما استقبلت حدائق مبنى (القشلة) الأثري، والتابعة لشارع المتنبي، الوافدين من المواطنين والعوائل لحضور الندوات الثقافية والشبابية والمعارض الفنية، فضلاً عن معارض مُصغرة للكتاب.
يقول المؤرخ، رفعة عبد الرزاق،" لم يعرف هذا الشارع ظاهرة بيع الكتب قبل منتصف الأربعينيات من القرن المنصرم، فقد كان حافلاً بالمطابع ومكاتب المحامين وسائر الأعمال الأخرى. وكان صاحب المكتبة العصرية، محمود حلمي، في سوق (السراي) المجاور، أول من انتقل إلى شارع المتنبي عام 1948، بعد أن ضاقت المكتبة بالكتب، وهو ما كان حافزاً لينتقل آخرون أيضاً إلى الشارع الذي سُمي باسم المتنبي عام 1932.
عبد الرازق يضيف، "في أواخر العصر العباسي، ضم الشارع مدارس علمية، لكنه عرف في أواخر العهد العثماني بالفعاليات الثقافية، كافتتاح المدرسة الرشدية العسكرية، تلتها مدرسة الحقوق، فضلاً عن بعض المؤسسات الحكومية، وأشهرها قصر (القشلة) الذي ضم أغلب الدوائر الرسمية.
أصل القشلة
و(القشلة) أو (قاشلاق)، بحسب المؤرخ، هي مفردة تركية الأصل تعني المكان الذي يمكث فيه الجنود، أو القلعة، وكان القصر هو المعسكر الشتوي الذي يعود بناؤه إلى عهد الوالي العثماني، مدحت باشا، عام 1852، وشيد من طابوق سور بغداد، الذي هُدم آنذاك، كما بنيت به ساعة القشلة الشهيرة، التي كانت تدق لإيقاظ الجنود. وأطلق على القصر سابقاً سراي الحكومة القديم، واختير لهذا السراي موقعاً محاذياً لنهر دجلة على جانب الرصافة في مركز بغداد القديمة. قرب شارع (الأكمكخانة)، وهو المسمى حالياً (شارع المتنبي). أما الأرض التي بني عليها قصر القشلة، فهي لا تزال زاخرة بآثار لأبنية وقصور تعود إلى مرحلة الخلافة العباسية، حين اعتلت بغداد صهوة العلم والثقافة، وأصبحت منارة للحضارة الإسلامية.
ويستذكر المؤرخ، "بعد الانقلاب الدستوري في الدولة العثمانية عام 1908، شهد الشارع افتتاح إدارات الصحف الكثيرة التي انبثقت مع العهد الدستوري. وانتقلت في الخمسينيات مكتبات مهمة إلى الشارع تاركة سوق السراي، الذي بقي سوقاً للقرطاسية ومكتبات صغيرة، من أشهرها مكتبة المثنى، بتاريخها الثري وصاحبها، قاسم محمد الرجب، ثم المكتبة الأهلية لصاحبها السيد شمس الدين الحيدري، ومكتبة النهضة لصاحبها عبد الرحمن حياوي، وتميزت هذه المكتبات بأن لكل منها مجلسه الأدبي الخاص، وأشهرهم مجلس مكتبة المثنى الذي أدركنا سنواته الأخيرة، فقد كان حافلاً بكبار الشخصيات العامة. كما لم يعرف شارع المتنبي يوماً مميزاً كالذي يجري حالياً في يوم الجمعة، حين يتحول الشارع إلى مهرجان للكتب والفكر، وينتشر الباعة على حافتي الطريق، ويؤمه جميع الفئات والشرائح.
تعرّض شارع المتنبي لانفجار إرهابي، مارس (آذار) 2007، أودى بعشرات القتلى، وأصبح اليوم، بعد محاولات تجديده، موسماً أدبياً واجتماعياً، لا سيما بعد إعماره الأخير عام 2021، حيث تحول إلى تحفة تراثية جميلة، وتحولت أماسيه إلى تجمع غفير لأهالي بغداد حتى ساعات متأخرة من الليل، وأصبحت مرافقه الشهيرة وفي مقدمتها مقهى الشابندر، وبيت المدى، تعج بمختلف الشرائح الاجتماعية، وفي طليعتهم الشباب، الذي وجد متنفساً جديداً في قلب العاصمة، ليكون ملتقى جميلاً تحيط به معالم التراث البغدادي، الذي يحرص الباعة ورواد الشارع على إظهاره بصور مختلفة.
سعياً إلى التعايش
ويعد المركز الثقافي البغدادي من المركز الثقافية الحيوية في العراق، وله منهاج ثقافي أسبوعي متنوع وشامل. يقول طالب عيسى، مسؤول المركز، "هو قبلة الوفود العربية والأجنبية، ويمثل مساحة للتبادل الثقافي بين مختلف الشرائح، وطريقاً للتعايش السلمي بين كل العراقيين. ويضيف، "نؤدي واجبنا في خدمة المواطن البغدادي، وفي أحيان كثيرة بجهود ذاتية. والمركز تجربة مهمة للشباب في تقديم الخدمة تطوعاً، ما شكل بالمجمل صورة تعكس حضارة بغداد وفسفيساء العراق.
ويتابع عيسى، "بحسب الإحصاءات التي نقدمها بشكل سنوي، تقام مئات الفعاليات كل عام، ويبلغ متوسط عدد الزوار الأسبوعي 3000 زائر. ويتألف المركز من قاعات عدة، منها قاعة علي الوردي، ومصطفى جواد، ونازك الملائكة، وجواد سليم، وحسين علي محفوظ، وقاعة محمد غني حكمت للفنون التشكيلية، وقاعة ألف ليلة وليلة للسينما، ومسرح الشناشيل للمقام العراقي، ومسرح سامي عبد الحميد للمهرجانات الكبيرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويستطرد، "ضمن مشروع (ناقلو التراث) اقتنينا أهم المكتبات في بغداد، التي تعود لشخصيات علمية، وتحتوي على مخطوطات ونوادر ووثائق مهمة، فضلاً عن مقتنيات شخصية أخرى، منها مكتبة ومتحف العلامة الدكتور أحمد سوسة، والعلامة ميخائيل عواد، والعلامة عبد الحميد الرشودي، والدكتور المؤرخ عماد عبد السلام، ومكتبة المفكر الشهيد عزيز السيد جاسم، والعلامة عبد الرزاق الهلالي، ومكتبة المؤرخ والوزير العراقي السابق الدكتور فيصل السامر، والمؤرخ المعاصر، شامل عبد القادر، والباحث التراثي رفعت الصفار، ومكتبة الطبيب والفنان التشكيلي علاء بشير.
يذكر عيسى أن المركز الثقافي البغدادي احتوى متاحف شخصية كمتحف أرض الرافدين للمؤرشف صباح السعدي، ومتحف دار السلام للمؤرشف محمد سيد علوان، وكذلك متحف دليل الجمهورية العراقية للمؤرخ هادي الطائي.
ويقع مركز المتنبي الصغير الخاص بفعاليات الأطفال في الطابق الأرضي، كما نستضيف في الباحة العديد من معارض الكتب والبازارات والصناعات التراثية واليدوية، ويمارس المركز الثقافي البغدادي نشاطه صباح كل يوم جمعة، حيث تعقد ندوات ولقاءات أدبية وعلمية وفنية في اختصاصات متنوعة".
رمضانيات بغدادية
مع حلول شهر رمضان، فتحت حدائق القشلة أبوابها أمام المواطنين لإحياء الليالي بنشاطات ثقافية وفعاليات تراثية ومعارض للأعمال اليدوية. يقول الكاتب والصحافي علي حسين، "تحيط بالقرب من شارع المتنبي مقاهٍ عديدة أبرزها مقهى حسن صفو، ومقهى عزاوي، اللذان اشتهرا بالحفلات الغنائية اليومية، كما اشتهر مقهى حسن عجمي بأنه ملتقى معظم الأدباء، وفي مقهى الزهاوي كان يجلس الشاعر الكبير جميل صدقي الزهاوي، وفي "عارف أغا" جلس الشاعر معروف الرصافي، والصحافي الشهير حبزبوز، ومنحت هذه المقاهي للمنطقة المحيطة بشارع المتنبي طابعها الثقافي، وكانت في معظمها ملتقيات ثقافية.
يضيف حسين، "شهد مقهى الشابندر، وهو أحد معالم شارع المتنبي العريقة، خصوصاً في رمضان، العديد من الفعاليات، في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، لكن هذا النشاط توقف في فترة الحصار في التسعينيات، ثم استمر بالعمل مساء حتى 2003. وفي خطوة لإعادة الحياة إلى الشارع عام 2007 وبعد حادث التفجير الإرهابي، أقام بيت المدى للثقافة والفنون، أحد دور النشر المهمة في شارع المتنبي، أول فعالية ثقافية، حين عرض مسرحية على أنقاض التفجير وبين المباني المتهالكة. وشارك فيها نجوم المسرح العراقي، وأبرزهم الفنان الراحل سامي عبد الحميد، وشذى سالم، وسامي قفطان.
ملامح وجدران
إيهاب عبد الرزاق، رئيس جمعية الناشرين والكتبيين في العراق، يوضح أن "لشارع المتنبي ملامح عدة تميزه عن أي شارع في بغداد وربما في المنطقة كلها، كونه من أقدم شوارع العاصمة، ولأنه سوق الكتاب الرئيس في العراق، ما جعله ملتقى المثقفين والشباب القارئ، وعُد في الآونة الأخيرة من أهم المنافذ للعائلة العراقية، بخاصة بعد ترميمه، وعلى الرغم من تأخر مبادرة إعادة الحياة إليه ليلاً، فإنها تحققت بعد أن كانت أمنية صعبة المنال لقاطنيه.
وعن جمعية الناشرين، يقول عبد الرزاق، "سبقت جمعيتنا الكثير من الجهات المطالبة بالاهتمام بهذا الصرح التراثي، بخاصة أن أغلب أعضاء الجمعية يتخذون منه مقراً رئيساً لهم، وفي ديسمبر 2020 كان الإعلان عن انطلاق العمل على ترميم الشارع في اجتماع لأمين بغداد مع أعضاء الجمعية في بيت المدى للثقافة والفنون بشارع المتنبي".
أن يكون زقاق المتنبي مكاناً لمسرح الشارع تجربة فتية في العراق مثلت أحد حلول استقطاب جمهور مسرحي، في الوقت الذي فقد المسرح العراقي جمهوره في الآونة الأخيرة، وتحول إلى عروض نخبوية، سواء في المسرح الوطني، أو منتدى المسرح، ومسرح الرافدين في ما بعد. يقول الأكاديمي والمخرج المسرحي حسين علي هارف، "كانت وجهة نظري أن نذهب ونبحث عن جمهور مسرحي حقيقي. وبدأنا بالمسرح الصعب، وأقصد به المسرح الصامت (البانتوميم)، وهو مناسب لدى تقديمه في أي مكان، فاستدعينا مسرحياً شاباً من محافظة بابل، قدم ثلاثة عروض، في مدخل الزقاق وفي منتصفه وفي نهايته. ونجحت التجربة إلى مدى بعيد، وتحلق الشباب والعوائل حول الممثل في عرضه الصامت واستمتعوا".
على ضفاف دجلة
هارف يتابع، "دفع نجاح هذه التجربة أمانة بغداد إلى تحفيز المشاركين على العمل، وطُلب منا إنجاز نشاطين مسرحيين أو ثلاثة خلال الشهر، لتعرض في شارع المتنبي. وفعلاً استمر العمل، وعرضت مسرحية (كلكامش الذي رأى) بطريقة الدمى وخيال الظل والرقص التعبيري. ثم فوجئت باستعداد أمانة بغداد لبناء خشبة مسرح صيفي لإتمام العرض، وأنشئ على ضفة النهر، مزوداً بشاشة عرض Data show عملاقة، ومعدات إضاءة وتقنيات كاملة فضلاً عن منظومة صوتية".
يمزج العرض بين التمثيل وفنون الدمى وخيال الظل والأقنعة لتجسيد ملحمة كلكامش البابلية، وتحكي قصة الملك الطاغية الذي يكتشف حقيقة أن ما يخلد الإنسان هو الأثر الذي يتركه، يقول هارف، "كان عرضاً كبيراً ومميزاً أضيفت إليه مادة فيلمية، وطُلب منا تقديم عرضين مساء اليوم الأول، وحضر الأول عدد من السفراء العرب والأجانب، وتسابقت العوائل للحصول على أماكن للمشاهدة. وتجاوز الحضور ألف متفرج".
لم يعتد معظم الجمهور في شارع المتنبي ثقافة المسارح، بخاصة مسرح الشارع، لكن تفاعله مع العرض كان مميزاً على رغم تباين مستوى الذائقة والتلقي بحسب الفئات العمرية، يثني هارف على الحضور الفاعل الذي وصفه بـ "جمهور يحظى بذائقة جديرة بالاحترام، ولو كانت هناك عروض في شوارع بغداد المختلفة فسنتمكن من صناعة جمهور يتمتع بوعي مسرحي، كما يمكن نقل هذه التجربة إلى المحافظات العراقية".
الشابة دانية سلام (28 سنة) تقول، "اعتدنا على زيارة شارع المتنبي نهاراً للتزود بالكتب وإمضاء بعض الوقت في مقهى الشابندر التراثي مع بعض الصديقات، لكنني حضرت أخيراً سهرات رمضانية تخللتها عروض مسرحية وأخرى سينمائية، ولم نشعر بمضي الوقت مع كل هذه المتعة". أما السيد علاء (57 سنة) فيقول، "يستمتع أفراد عائلتي بالحضور في ليالي رمضان ومتابعة النشاطات الفنية والثقافية والعروض الفيلمية، حتى إننا نعود في أوقات متأخرة مساء. فعلاً تغيرت ملامح الشارع ليصبح ذا نكهة مختلفة ومتفردة".
حكاية الكنّاس
يقول المخرج حسين هارف، "تأثرت كثيراً بما نُشر يوم حادث التفجير الإرهابي في ساحة الطيران قبل أربع سنوات عن الشهيد الكنّاس عبد الباسط حسين، المنتسب في أمانة بغداد، وهو أحد شهداء تلك الواقعة المأساوية، إذ وجدت بنفسي مندفعاً لأن يكون هو عنوان مشروعي المسرحي المقبل، ليعرض المشروع في نفس مكان الجريمة الإرهابية (ساحة الطيران). ويضيف، "نجري التدريبات الآن بالقرب من مبنى القشلة، وخططنا لأن نقدم عرضنا في اليومين المقبلين، من دون خشبة مسرح، وفي فضاء مفتوح، رغبة منا في استقطاب جمهور الشارع والمارة.
بعض الفعاليات تُقدم بمبادرات من أصحاب دور النشر والمكتبات، أما البعض الآخر فهو ممول من قبل بعض الجهات الحكومية وشبه الحكومية، مثل البنك المركزي العراقي، ورابطة المصارف الخاصة، وبرعاية الأمانة العامة لمجلس الوزراء، ووزارة الثقافة والسياحة والآثار. ويقدم ديوان القشلة الثقافة والاقتصاد العراقي دعمه عبر المعرض الدائم للصناعة الوطنية، الذي يتزامن بشكل يومي مع حضور نخبة من المختصين والخبراء، ووجدت العوائل العراقية المتوافدة فرصة للترفيه والتعرف إلى المعالم التراثية والأثرية للعراق.