لم يكن تقرير صحيفة "نيويورك تايمز" الذي نشرته قبل نحو أسبوعين حول أخطاء الهجمات الجوية الأميركية بطائرات من دون طيار "الدرون" خلال العقد الماضي، والتي أدت إلى مقتل آلاف من المدنيين الأبرياء في سوريا والعراق وأفغانستان، تطوراً جديداً في حد ذاته، وإنما تأكيداً لعشرات التقارير التي نشرتها الصحافة ومراكز بحوث أميركية، لكن الجديد يتمثل في نشر مجموعة من الوقائع التي تستند إلى وثائق سرية من داخل وزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون"، والتي لا تزال تثير المزيد من ردود الأفعال والجدل حول سبب تجاهل القيادات الأميركية هذه التقارير وعدم تحركها لوقفها، رغم الأضرار النفسية التي سببتها لمن يشغلون طائرات "الدرون" القاتلة بحسبما كشفت الصحيفة قبل أيام قليلة.
تدقيق متزايد
تواجه وزارة الدفاع الأميركية منذ عدة أشهر، تدقيقاً متزايداً بشأن الخسائر المدنية الناجمة عن الأعمال العسكرية الأميركية في سوريا والعراق وأفغانستان، والتي كان أحد أبرز معالمها الظاهرة، تلك الغارة الفاشلة التي شنتها بطائرة "درون" خلال الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان في أغسطس (آب) الماضي في كابول وأسفرت عن مقتل 10 مدنيين، سبعة منهم أطفال، كما أمرت وزارة الدفاع بمراجعة غارة جوية أميركية في سوريا أسفرت عن مقتل مدنيين عام 2019، فيما خلص تقرير نشرته مؤسسة "راند" نهاية مارس (آذار) الماضي، إلى أن القوات الأميركية وقوات التحالف التي قاتلت في سوريا عام 2017 لاستعادة مدينة الرقة من "داعش"، كان بإمكانها فعل المزيد لتقليل الضرر اللاحق بالمدنيين الذين يعيشون في المدينة خلال المعركة التي استمرت لأشهر، وأن القوات الأميركية فضلت شن حملة جوية بدلاً من هجوم بري أوسع، الأمر الذي أدى إلى مزيد من الأضرار.
وقبل أسبوعين، كشفت مجموعة الوثائق التي حصلت عليها صحيفة "نيويورك تايمز"، عن تقييمات سرية أجراها الجيش الأميركي لأكثر من 1300 تقرير حول سقوط آلاف من الضحايا المدنيين، بينهم العديد من الأطفال، في الحرب الجوية التي شملت أخطاء جسيمة في المعلومات الاستخباراتية، وعمليات استهداف متسرعة وغير دقيقة في كثير من الأحيان، وهو ما يعد تناقضاً صارخاً مع الصورة التي روجت لها الحكومة الأميركية عن كفاءة طائرات "الدرون" ذات قدرات الرصد الفائقة والقنابل دقيقة التوجيه.
فشل كارثي
ومن بين أكثر نماذج الفشل كارثية وإيلاماً التي نشرتها "نيويورك تايمز"، أن قوات العمليات الخاصة الأميركية، قصفت عام 2016، ما كانت تعتقد أنها ثلاث مناطق تابعة لـ"داعش" في ضواحي قرية بشمال سوريا، وأن الغارة أسفرت عن مقتل 85 مقاتلاً، لكن الحقيقة أنها قصفت منازل بعيدة عن جبهة القتال كان يحتمي بداخلها بعض المزارعين وعائلاتهم حيث قُتل أكثر من 120 شخصاً من سكان القرية في تلك الليلة.
وفي مطلع عام 2017 في العراق، قصفت طائرة حربية أميركية سيارةً كان يُعتقد أنها مفخخة، بعد أن توقفت في تقاطع طرق غرب الموصل، لكن الحقيقة أن السيارة لم تكن تحمل قنبلة، بل كان فيها رجل وزوجته وطفلاهما حيث كانوا يلوذون بالفرار من منطقة قتال قريبة، ما أدى إلى مصرع أفراد الأسرة الأربعة، فضلاً عن ثلاثة مدنيين آخرين، وقبل ذلك بعامين، قصفت القوات الأميركية أحد المباني في مدينة الرمادي بالعراق بعد أن رصدت شخصاً يجر جسماً ثقيلاً مجهول الهوية إلى موقع قتال دفاعي تابع لتنظيم "داعش"، لكن بعد مراجعة الجيش للغارة، تبين أن هذا الجسم كان في حقيقة الأمر لطفل لقي حتفه في الغارة.
خسائر جانبية
ورغم أن حالات التجاهل كثيرة، فإن الحالات القليلة التي يُعترف فيها علناً بارتكاب أخطاء، توصف الواقعة غالباً بأنها استثنائية ومؤسفة ولا مفرّ من وقوعها، حيث اعتبر النقيب بيل أوربان، المتحدث الرسمي باسم القيادة المركزية الأميركية لـ"نيويورك تايمز"، أن الأخطاء تحدث حتى مع استخدام أفضل التكنولوجيا في العالم، سواء بسبب المعلومات المنقوصة أو التفسير الخطأ للمعلومات المتاحة، وأن القوات الأميركية تحاول التعلم من أخطائها، وتسعى لتفادي مثل هذه الأضرار من خلال التحقيق في كل واقعة ذات مصداقية.
وفي حين وصف أوربان الحد من أخطار إلحاق الضرر بالمدنيين بأنه ضرورة استراتيجية والتزام قانوني وأخلاقي، تكشف الوثائق السرية أن المدنيين، أصبحوا ضمن الخسائر الجانبية المعتادة لطريقة حرب بلغت منها الأخطاء مبلغاً، حيث تكشف الوثائق عن حالات كثيرة وكارثية ثبُت فيها لاحقاً خطأ توقعات الجيش بشأن الخطر الواقع على المدنيين، وأنه نادراً ما كانت الدروس تُستخلص من الأخطاء المرتبطة بعمليات الاستخبارات والاستطلاع، وهو ما أدى لتكرارها عدة مرات.
معلومات استخباراتية واهية
ومن أبرز النماذج التي كشفت عنها "نيويورك تايمز"، حالة الطيار كيفين لارسون في القوات الجوية الأميركية والذي كان يعد من أكفأ من قاد طائرات "الدرون" القتالية، حيث قاد 650 مهمة قتالية بين عامي 2013 و2018 وشن 188 غارة جوية، وحصل على 20 ميدالية تقديراً لإنجازاته، كما قتل أحد أبرز القادة المدرجين قي قائمة الإرهاب الأميركية، لكن هذا الطيار الشاب (32 عاماً) انقلبت حياته رأساً على عقب، حينما بدأ يشعر بوخز الضمير واضطر إلى القيام بأفعال تتعارض مع قيمه الأخلاقية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم يكن لارسون أو غيره من أقرانه الذين يقودون طائرات "الدرون"، يختارون الأهداف التي يقصفونها ولكنها كانت مهمة آخرين، يُطلق عليهم اسم "العميل"، وقد يكون ذلك العميل، قائداً في القوات البرية أو عنصراً في الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي أي"، أو عضواً في خلية سرية لقوات العمليات الخاصة الأميركية، غير أن ما يريده "العميل" لم يكن صحيحاً أو دقيقاً في بعض الأحيان، فقد كانت هناك ضربات صاروخية اتُخذت بشكل متسرع لدرجة أنها أصابت وقتلت النساء والأطفال، وهجمات أخرى اتضح أنها استندت إلى معلومات استخباراتية واهية، وأصابت القرويين العاديين فضلاً عن استخدام قواعد الاشتباك السرية من قبل "العميل" الذي قتل 20 مدنياً على الأقل عن عمد خلال واحدة من عمليات الاستهداف.
قتل مدنيين بشكل متعمد
بينما كان النقيب لارسون يحاول دفن شكوكه في منزله في لاس فيغاس، إلا أن علامات الضيق ظهرت عليه، وهو ما دفع والده إلى الاستفسار عن سبب ضيقه الشديد، فأبلغه تحت الضغط بأن "العميل" أمره بتعقب وقتل عضو مشتبه في تنظيم "داعش"، ثم أمره أن يستخدم كاميرا طائرة "الدرون" من طراز "ريبر" عالية الدقة لمتابعة الجثمان إلى المقبرة وقتل جميع من حضروا الجنازة.
تسببت هذه العملية في إحداث صدمة نفسية اضطر معها لارسون إلى تعاطي العقاقير المخدرة، وأدى اكتشاف القوات الجوية للأمر، إلى توجيه تهمة تعاطي وتوزيع المخدرات ووقفه عن العمل وتقديمه إلى المحاكمة، فانهار زواجه، وقبل أن تصدر المحكمة قرارها بإدانة لارسون فر هارباً إلى أحد الأودية في كاليفورنيا حيث طاردته الشرطة ووجدت جثته بعدما أطلق على نفسه النار منتحراً.
أكبر عدد من القتلى
تكشف قصة النقيب لارسون مع قصص ضباط آخرين، حصيلة غير معلومة على أرض الواقع نتيجة هذه الضربات التي يتم التحكم فيها عن بعد، وتشير "نيويورك تايمز" إلى أن طائرات الدرون قتلت أكبر عدد من الضحايا أكبر من أي سلاح آخر في الجيش خلال العقد الماضي، ومع ذلك فإن الجيش لا يعتبر مشغلي هذه الطائرات من ضمن القوات القتالية نظراً لأنهم لا ينتشرون في ساحة المعركة، ولهذا لا يحصل طاقم هذه الطائرات على فترات تعاف مماثلة للقوات القتالية، ولا يخضعون لفحوصات الصحة العقلية، ولكن يعاملون كموظفين في المكاتب، وينشأ عن ذلك إصابتهم بنوبات عصبية مستمرة في حرب أبدية.
ووفقاً لأفراد طاقم طائرات "الدرون"، فقد أصبح إدمانهم الخمر شائعاً وزادت بينهم حالات الطلاق، حيث يقول نيل شونمان، وهو مشغل أجهزة استشعار "الدرون" والذي تقاعد عام 2019، إن الأمر ليس ظاهرياً كما يبدو للبعض، لأنهم يراقبون الهدف لأيام وأسابيع وأحياناً لعدة أشهر، ويرونه يلعب مع أطفاله ويتفاعل مع عائلته، وتتكشف حياته لهم، ما يجعلهم متصلين به نفسياً على الأقل، ولكن عندما يأتي الأمر بقتل الهدف، يشاهدون الموت والدفن ويبدأ الندم في التصاعد، وعلى عكس ما يعتقد الناس، فهذه ليست لعبة فيديو على الإطلاق، حيث لا يوجد زر يعيد القتيل إلى الحياة مرة أخرى.
مشهد أخلاقي مزعج
وفيما تعهد "البنتاغون" بتعزيز الضوابط على الضربات الجوية وتحسين التحقيقات في مزاعم قتل المدنيين، إلا أن العديد من طواقم طائرات "الدرون" الذين قاموا بنفس المهام في أسراب أخرى كشفوا عن تفاصيل غير سرية ووصفوا معاناتهم مع المشهد الأخلاقي المزعج، حيث يقول جيمس كلاين وهو نقيب سابق بالقوات الجوية، إن مراقبة الأهداف كانت تستغرق وقتاً طويلاً قبل قرار استخدام السلاح ضد الهدف، إلا أن إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما خففت القواعد في ديسمبر (كانون الأول) 2016 بسبب تصعيد تنظيم "داعش" القتال، ما دفع الإدارة الأميركية إلى الموافقة على الضربات الجوية في أعماق صفوفها.
وفي العام التالي، خففت إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب سراً هذه الأمور بدرجة أكبر، حيث تم نقل القرارات المتعلقة بالأهداف عالية القيمة التي كانت مقتصرة على الجنرالات أو حتى الرئيس، إلى مستوى منخفض، أصبحت معها الضربات تطلق سريعاً وتضرب المدارس والأسواق ومجموعات كبيرة من النساء والأطفال، بعدما كانت تجري في الماضي بعد عمليات جمع معلومات استخبارية صارمة وموافقات عديدة.
إرهاق الروح
ومن بين هذه النماذج، صدرت أوامر لإحدى زميلات كلاين بمهاجمة شخص يشتبه أنه من عناصر "داعش" وكان يدفع رجلاً آخر على كرسي متحرك في أحد الشوارع المزدحمة، وقتلت هذه العملية الرجل وثلاثة من المارة، لكن زميلة كلاين التي قادت "الدرون" انهارت تماماً وظلت تبكي ثم انقطعت عن العمل قبل أن تتركه نهائياً.
وبحسب طواقم طائرات "الدرون"، فإن المشكلة تتجسد في أن التقارير التي كانت تقدم عن الضحايا المدنيين، لم تسفر عن ردود عقب التحقيقات في كثير من الأحيان.
ومع ذلك، أجرت القوات الجوية الأميركية دراسة على طواقم طائرات "الدرون" لأكثر من عشر سنوات، ووجدت مستويات عالية من التوتر والسخرية والإرهاق النفسي، وأبلغ 20 في المئة من أفراد الطواقم عن مستويات من الاضطراب الانفعالي، وهو ما يعادل ضعف المعدل بين أفراد القوات الجوية غير القتالية، حيث كانت نسبة من أبلغوا عن اضطراب ما بعد الصدمة ومن يحملون أفكاراً بالانتحار، أعلى مما كانت عليه في طواقم الطائرات القتالية.
تعتيم
وعلى الرغم من الخسائر المستمرة بين المدنيين، فإن إجراءات الجيش للتحقيق في مقتل المدنيين نادراً ما توضع موضع التنفيذ كأداة لاستخلاص الدروس أو تحديد الطرف المسؤول، فقد خلت الوثائق من أي أخطاء أو إجراءات تأديبية، أما التوصيات بإجراء تحقيقات كاملة، فقد وُجدت في أقل من 12 في المئة من الوقائع ذات المصداقية.
وفي كثير من الحالات، كانت القيادة التي وافقت على الغارات هي نفسها المسؤولة عن التحقيق فيها، وغالباً ما كانت التحقيقات تستند إلى أدلة مغلوطة أو منقوصة، فالمسؤولون العسكريون لم يتحدثوا مع الناجين أو شهود العيان إلا في واقعتين فقط، ولم يتم الاكتراث بأنباء سقوط ضحايا مدنيين.