مظفر النواب يترجّل غريباً بعد رحلة شعرية متفجرة

آخر تحديث 2022-05-20 00:00:00 - المصدر: اندبندنت عربية

الكلمة في تجربة الشاعر العراقي مظفر النواب، الذي رحل عن دنيانا اليوم الجمعة 20 مايو(أيار) عن عمر يناهز 88 عاماً، هي موقف ورأي وتجربة حياة متوهجة متفجرة. تبحر قصائده دائماً في الهم الإنساني بغير اشتراطات ولا حدود، متجاوزة الظرفي والمؤقت والعابر والخاص، لتصير انشغالاً عامّاً، وقيمة مجردة موجودة بذاتها. وعلى الرغم من أن "البيان السياسي" قد يبدو للوهلة الأولى غالباً لديه، كما أن إحدى قصائده الشهيرة جاءت بعنوان "بيان سياسي"، فإن شعريته المتدفقة، في الفصحى والعامية، مرهونة في مجملها بفنيّاتها الخالصة، وأبجدياتها التعبيرية الجاذبة المتجددة. فما هو إبداعي جمالي هو الباقي، وهذا هو سر تفاعل الجماهير مع نصوصه في سائر الأقطار والأرجاء، عبر الأجيال المتعاقبة.

إن الشاعر العراقي المخضرم، الذي رحل في مستشفى الجامعة في الشارقة بعد صراع مع المرض ومسار طويل من النفي والسجن والمعارضة والملاحقة لأكثر من ستين عاماً، تمكّن من تحصين أعماله الشعرية ضد الغربة والغرابة والقيود. فهي نصوص سهلة سلسة، على عمقها وطبقاتها المتعددة، تصل سمعيّاً وشفاهيّاً إلى المتلقي بقدر مناسب، وبقدر أعلى عند القراءة البصرية المتأنية. وهي نصوص متحررة، تمارس التحرر الكامل "فعلاً" في مضمونها وشكلها "الثورة ليست خيمة". ولا تكتفي بالدعوة إلى التحرر أو ممارسته "قولاً" كما لدى الكثيرين من البلاغيين والخطابيين. وبالتالي فإنها قصائد ذات مصداقية وتأثير، وقدرة على تغيير الساكن المستقر، وإنجاز الحراك الفردي والجماعي، وتحقيق التمرد على الأوضاع الراكدة.

انتماء شبه إيديولوجي

اتخذ مظفر النواب من مواقفه وآرائه وانتمائه الإيديولوجي والسياسي إلى اليسار والحزب الشيوعي العراقي وتجاربه الحياتية في المعارضة والمقاومة وميوله الثورية، منصة لإطلاق تجربته الشعرية، بجناحيها الفصيح والشعبي. وهي تجربة تنفتح على كل القواميس والمفردات المتاحة، بما في ذلك البذاءة نفسها، بعد التعاطي معها جماليّاً وصهرها في توليفته الخاصة البركانية، وذلك من أجل نقد الواقع؛ بما يليق بقسوته، والسعي إلى تغييره إلى الأفضل؛ بما يليق بالمتعطشين إلى حياة حرة كريمة عادلة، في عالم مليء بالظلم والاضطهاد والجفاف والجفاء: "اغفروا لي حزني وخمري وغضبي وكلماتي القاسية/ بعضكم سيقول بذيئة/ لا بأس، أروني موقفاً أكثر بذاءة مما نحن فيه".

مظفر النواب يقرأ شعره (وزارة الثقافة)

إن ألوف العراقيين والعرب الذين يحفظون أشعار مظفر النواب، لا يحفظونها لأنها سرية أو ممنوعة، فهي لم تعد هكذا في عصر التقنية والاتصالات والفضاءات المفتوحة، لكنهم تفاعلوا وتماهوا معها لأنها شجاعة، وقادرة على أن تنوب عنهم، وتتحدث بألسنتهم، وتحمل ضوت الضمير الإنساني في ثيمة شعرية مخلصة صادقة، كطلقة تختصر طريقها إلى الهدف "ليس بين الرصاص مسافة".

هي القصائد المرايا، إذا جاز التعبير، مرايا للذات المعذبة، والخرائط الممزقة، والكيانات الفاسدة، والكون الخرب، الذي يفقس البيض الفاسد فيه أوساخاً، والذي لا يسمع أحدٌ فيه الآخر حتى في أوج صراخه: "أما الآن، فحانات العالم فاترة/ ملل يشبه علكة/ بغيٌ لصقَتهُ الأيام بقلبي". ولعل ذلك الإحساس بتعاظم الخطر واقتراب النهايات هو ما ينعكس على هذه النبرة العالية لديه، والموسيقى الصاخبة الإيقاع. فالصوت كفعل فيزيائي حتى وليس كمعنى، لم يعد يصل، لكنه لابد أن يصل قبل أن يتحول الجميع إلى أشلاء: "الوطن الآن على مفترق الطرقات/ وأقصد كل الوطن العربي/ فإما وطن واحد/ أو وطن أشلاء".

الإشتعال المباشر

إن الشعرية في قصائد مظفر النواب، الذي تنقل خلال حياته بين دول عربية كثيرة منها سوريا ومصر ولبنان وليبيا وغيرها، هي نارية الوهج، بمعنى الإضاءة الجمالية في المقام الأول، إلى جانب نارية الاشتعال المباشر، بمعنى تفجير الغضب وإعلان الموقف الحماسي وتمرير الرسالة الاحتجاجية ضد الطغيان. وما إلى ذلك من معانٍ ترتبط في الأصل بوقائع جزئية ومشهدية محددة، لكنها تتسع لديه لتصير انتصاراً للحق والخير والجمال والعدالة والكرامة وسائر القيم الإنسانية الصالحة لكل زمان ومكان. وهذا ما يؤكد أن الشعر الحقيقي لا يمكن حبسه وراء القضبان: "لا تخشوا أحداً في الحق/ فما يلبس حقٌّ نصف رداء".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي القصائد الشعبية، باللهجة الدارجة، ينطلق مظفر النواب من الأبجديات ذاتها، فهو يكتب القصيدة التحررية الإنسانية، التي تتقصى ما وراء الحالة وما خلف الأسطح الخارجية، لإدراك جوهر المشاعر لدى الذات والبشر جميعاً. وكذلك حقيقة الظواهر الطبيعية من حولنا، التي تبدو متفاعلة مع قوانين الحياة، ومتصلة بالطبيعة الإنسانية: "مو حزن لكن حزين/ مثل ما تنقطع جوّا المطر... شدّة ياسمين/ مو حزن لكن حزين/ مثل صندوق العرس ينباع خردة عشق... من تمضي السنين".

هذه النزعة لدى مظفر النواب إلى عالم الطبيعة، تقوده إلى ثقب من البياض اسمه الأمل، رغم كل ما يحاك في الكون من مؤامرات (لم ينعطف خلٌّ على خلّ كما سبّابة فوق الزناد)، ورغم كل ما يستجد في الوجود من طبقات السواد. ففي أمنياته على بوابة السنة الجديدة ينفث آماله متعطشاً إلى الضوء الغائب "رقعة الشباك كم تشبه جوعي"، ومن قلب السكون الجاثم فإن "فرح الأجراس يأتي من بعيد/ وصهيل الفتيات الشقر، يستنهض عزم الزمن المتعب".

هذا الثقب التفاؤلي الذي يقود إلى الضوء والانفلات، يقود أيضاً إلى تحقيق الانتصار. وهنا، في تجربة مظفر النواب، فإن الانتصار للشعر في التجربة الفنية المتجاوزة، الصامدة، الباقية، جنباً إلى جنب مع إعلاء فكرة أن الكلمة هي المنتصرة في صراعها الأبدي مع القوى المتسلطة، والرجعيات البالية، وهذه الكلمة هي التي ستظل تصنع مذاق الحياة حتى آخر لحظة: "كم قليل من الناس، يترك في كل شيء مذاق".