بلغت الأزمة حول النفط بين الحكومتين؛ الاتحادية في بغداد وإقليم كردستان، مراحل متقدمة من التعقيد، مع إعلان مجلس القضاء الكردي عدم "دستورية" المحكمة الاتحادية، فيما تصعد قوى عراقية من ضغوطها على الحزب الديمقراطي بزعامة مسعود بارزاني لدفعه إلى التخلي عن موقفه في المضي بتشكيل حكومة أغلبية مع تحالفي رجل الدين مقتدى الصدر ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي.
وكان ملف النفط الكردي يدار منذ عام 2014 وفق صيغة تفاهمات أبرمت في فترة حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي، تلزم الإقليم تسليم نسبة من نفطه المستخرج أو إيراداته أو استقطاع نسبة من قيم العائدات من حصة الإقليم في الموازنة، إلا أن تلك التفاهمات تعثرت عقب انتخابات العام الماضي، مع حدوث انقسامات داخل كل كتلة لتفرز تحالفات بخلاف العرف السياسي الذي نشأ على "ركائز طائفية وعرقية" منذ أول انتخابات شهدتها البلاد في أعقاب سقوط نظام صدام حسين عام 2003.
ووصلت الخلافات ذروتها عقب إصدار المحكمة الاتحادية في 15 من فبراير (شباط) الماضي قراراً اعتبرت فيه قانون النفط والغاز المشرع في برلمان الإقليم مخالفاً للدستور، حيث يلزم الإقليم بتسليم كامل إنتاجه النفطي إلى بغداد، والسماح للجهات الاتحادية المعنية "بمراجعة جميع عقوده النفطية"، لكن أربيل رفضت القرار، ليعلن وزير النفط الاتحادي إحسان عبد الجبار في 7 من مايو (أيار) الماضي، تعثر المباحثات، والبدء باتخاذ الإجراءات العملية لإجبار الشركات الأجنبية العاملة في الإقليم على إلغاء عقودها مع أربيل وإبرامها مع بغداد.
لا محكمة من دون تشريع قانون
وما زاد المشهد تعقيداً هو إعلان "مجلس القضاء" في الإقليم أخيراً "عدم امتلاك المحكمة الاتحادية سلطة دستورية، لكون الدستور يفرض تشريع قانون في البرلمان لتأسيسها، والقانون لم يشرع بعد، كما أن المحكمة ليس لها صلاحيات إصدار قرار بإلغاء قانون النفط والغاز في الإقليم، لذا فإن هذا القانون سيبقى ساري المفعول". وقال المجلس إن إدارة حكومة الإقليم ملفها النفطي "تتوافق مع الدستور الاتحادي، لكونه لم يحصر عمليات التنقيب وإنتاج النفط والغاز على السلطة الاتحادية".
وفي السياق أيضاً، نقلت وسائل إعلام تابعة لحزب بارزاني عن مصدر في وزارة الموارد الطبيعية في الإقليم، يوم أمس الاثنين، قوله إن "محكمة تحقيق أربيل قررت في 5 يونيو (حزيران) 2022، تأجيل عدد من الشكاوى المدنية التي رفعها وزير النفط الاتحادي ضد شركات النفط والغاز العالمية العاملة في الإقليم".
وكانت المحكمة التجارية "الكرخ" في بغداد، استدعت في الشهر الماضي، بناءً على طلب وزير النفط الاتحادي، الشركات المعنية. ونوه المصدر بأن "القانون العراقي لا يسمح بإجراء محاكمة مدنية أثناء إجراء تحقيق جنائي ذي صلة، وعليه يجب أن تؤجل الشكوى".
إلا أن الحكومة الكردية عادت وأكدت أمس الاثنين أن وفداً يمثلها توجه إلى بغداد لمواصلة المفاوضات "من أجل ضمان حقوق الإقليم الدستورية"، وهي أحدث جولة مباحثات يجريها الإقليم منذ 11 أبريل (نيسان) الماضي.
قرارات قضائية بدوافع سياسية
وحول قراءته إزاء دوافع هذا التصعيد، يرى المحلل الكردي في مجال النفط، كوفند شيرواني، أن "العلاقة بين الطرفين ارتبكت بعد قرار المحكمة الاتحادية، والمستغرب أنه في الأشهر الستة الأخيرة كان إيقاع قرارات المحكمة متسارعاً جداً، وعديد من السياسيين والمراقبين، حتى في بغداد والجنوب، رأوا أن هذه القرارات يشوبها طابع سياسي واضح، وما خلق الإرباك هو خلط الاقتصاد بالسياسة، خصوصاً أن النفط هو عماد الاقتصاد العراقي، وعدم حسم هذا الخلاف بشكل دستوري يرضي الطرفين يلحق الضرر بالجميع".
وأضاف "يبدو أن ما يجري هو عبارة عن أوراق ضغط يمارسه كل طرف على الآخر من أجل الحصول على مكاسب سياسية، ضمن عملية الاستقطاب الجارية لتشكيل الحكومة، والضغوط واضحة على تحالف إنقاذ وطن".
وانضم حزب بارزاني إلى تحالف "إنقاذ وطن" مع الصدر والحلبوسي لتشكيل "حكومة أغلبية"، ليدخل في تصادم مع تحالف "الإطار التنسيقي" الذي يضم قوى شيعية مقربة من إيران، حيث تمكنت الأخيرة من تعطيل عقد جلسات التصويت على تشكيل الحكومة عبر اللجوء إلى خيار "الثلث المعطل".
وفي طبيعة النقاط الخلافية من وجهة نظر الإقليم، يقول شيرواني إن "كل قرارات بغداد الصادرة بهذا الخصوص تأتي في ظل وجود فراغ قانوني أصلاً، فلا يوجد قانون مشرع ونافذ حول النفط والغاز، والتعويل يرتكز على المواد الواردة في الدستور فقط، وهي لا يمكن أن تحيط بكل جوانب الصناعة النفطية، فهناك اختلاف في تفاسير المواد التي يبدو بعضها غير واضح وتحتاج إلى تفسير فني وليس قانونياً، تحديداً حول مسألة الحقول القديمة قبل إقرار الدستور، وتلك التي حفرت ما بعد ذلك، وهذا خلاف كبير ويبدو أن المفاوض السياسي أو القانوني لم يطلب حسمه من الجهات المعنية، وأصبحت تسبب خلافات على طول الخط".
وبشأن إمكان تطبيق بغداد قرارات المحكمة الاتحادية فعلياً، قال "على أرض الواقع، فإن الشركات النفطية تعمل في الإقليم، فمن الصعوبة أن تنسق مع بغداد من دون أربيل، ثم إن كل العقود المبرمة خاضعة لقوانين التجارة الدولية وليس القوانين المحلية، وبالتالي فإن أي شركة عالمية بحكم خبرتها وإمكاناتها القانونية ستلجأ إلى مقاضاة إحدى الحكومتين لدى محاكم التجارية الدولية، وعادة لا تخسر مثل هذه القضايا، ومن ثم فإن الزج بالشركات في هذا الخلاف سيكون له نتائج عكسية".
ضغط سياسي
وما يزيد من صعوبة موقف أربيل هو التصعيد السياسي الذي تمارسه القوى الساعية لإفشال تشكيل حكومة أغلبية متمثلة بقوى "الإطار التنسيقي"، الذي حذر في بيان يوم أمس الاثنين من "محاولات الالتفاف على قانون المحكمة الاتحادية بخصوص نفط كردستان والمجاملة السياسية على حساب قوت الشعب"، في وقت رفع فيه أحد نواب "ائتلاف دولة القانون" بزعامة نوري المالكي، المنضوي في التحالف، دعوى أمام المحكمة العليا للمطالبة بحل "الحزب الديمقراطي الكردستاني (بزعامة بارزاني) بتهمة عدم الامتثال لقرار المحكمة الاتحادية الخاص بملف النفط، وتمرده على الدستور العراقي"، بينما اعتبر أعضاء في حزب بارزاني الدعوى بأنها "سياسية تستخدم كورقة للتأثير في موقفه من حكومة الأغلبية".
ويرجح أن يتراجع التصعيد القائم بين الحكومتين مع بوادر بحصول انفراج في الأزمة السياسية التي بدأت مع دخول الحزبين الكرديين "الديمقراطي" بزعامة مسعود بارزاني و"الاتحاد الوطني" بزعامة بافل طالباني في مفاوضات لإنهاء خلافهما على منصب رئاسة الجمهورية، ومبادرة من المنتظر أن يطرحها بارزاني على القوى العراقية ضمن ما وصف بـ"الفرصة الأخيرة لإنهاء الانسداد السياسي" في تشكيل الحكومة الجديدة.
ازدواجية في الموقف الكردي
من جهته، يختلف المحلل السياسي رئيس المركز الوطني للإعلام والمقيم في بغداد، خالد السراي، مع رأي شيرواني، بالقول إن "المحكمة الاتحادية تمتلك العلوية على كل مكونات الدولة العراقية، وهي المسؤولة الوحيدة عن تفسير الدستور وحل الخلافات على ضوء أية مادة، ولا يجوز أن تحسب المسألة على الجانب السياسي، ومن المدهش أن يأتي مجلس قضاء ما في الإقليم ليطعن بشرعيتها من دون أية مسؤولية، ليقول إن كل ما يصدر عنها غير شرعي، وأتساءل: ألم تكن هذه المحكمة هي التي صادقت على نتائج الانتخابات وما أفرزته من برلمان؟".
وحذر السراي من "تأسيس مشروع يسقط حتى الساتر الأخير العملية السياسية وحامي حقوق المواطن العراقي من خلال محكمة اتحادية تطبق الدستور"، مستدركاً "ثم إن تعديل قانون المحكمة الاتحادية واختيار أعضائها، ألم يكن الحزبان الحاكمان في الإقليم طرفين أسياسيين فيه، وتم تعيين قاضيين فيها يمثل أحدهما حزب بارزاني والآخر حزب طالباني، والمصادقة تمت بالموافقة الكردية في مجلس النواب".
ويشير المحلل السياسي إلى أن القضاء "أصبح ضحية للصراع السياسي، وهذه أخطر مرحلة تمر بها البلاد إذا ما فقدنا علوية المحكمة الاتحادية ومكانتها، ما يعني الإصرار والمغامرة على إشاعة الفوضى، وإلا إلى ماذا وكيف نحتكم؟ من مواطن وحكومة وأحزاب، هنا تكمن الخطورة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإزاء أدوات تطبيق القرارات على الإقليم، أوضح أن "التطبيق يقع على عاتق السلطة التنفيذية، والأخيرة من الواضح أنها متواطئة مع الإقليم، بدليل أن وزارة المالية أقرت اليوم إرسال 200 مليار دينار إلى الإقليم ضمن السلفة الشهرية التي تدفعها بغداد إلى حكومة أربيل، من دون أن تلتزم الأخيرة بالقرارات الاتحادية المتعلقة بالموازنة والبرلمان والمحكمة، التي تلزم الإقليم أن يسلم 250 ألف برميل شهرياً، وهذه النسبة لا تمثل ثلث إنتاجه من النفط، ومن الواضح أن حكومة تصريف الأعمال لا تستطيع تطبيق القرارات، لأن طبيعة تشكيلها تمثل حكومة التحالف الثلاثي (تحالف إنقاذ وطن)".
تخصيصات مالية مشروطة
وأعلن وزير المالية علي علاوي أمس أن "قانون الأمن الغذائي يخلو من أي تخصيصات لإقليم كردستان"، كما شدد على أن "قرار المحكمة الاتحادية الخاص بنفط الإقليم سيجبر وزارة المالية على الأخذ في الاعتبار تداعيات هذا القرار وعدم منح إقليم كردستان تخصيصات 12 في المئة وغيرها، ما لم يتم التوصل لقرار بحصر صادرات نفط الإقليم بيد الحكومة الاتحادية المتمثلة بشركة النفط الوطنية سومو"، مؤكداً أن "صادرات نفط الإقليم أصبحت غير شرعية ولا يمكن تضمين أي تخصيص مالي للإقليم في موازنة العام الحالي ما لم يتم حصره بيد شركة سومو".
لكن السراي يعتقد أن "تطبيق القرارات فعلياً سيكون رهن تغيير الوضع السياسي، فإذا ما رفعت المحكمة الاتحادية شكوى وطلب القضاء العراقي من الشركات العاملة في الإقليم إلى الاتفاق مع بغداد حصراً، فالقضية قد تتوسع"، مستدركاً أن "الخلاف سيبقى قائماً إذا ما لم يشرع قانون النفط والغاز في البرلمان، كما أن تفسير المواد الدستورية يجب أن يكون من اختصاص المحكمة الدستورية العليا، وحق إصدار الأحكام على ضوئها، وهي راعية الدستور".