انحسرت مياه الرافدين، دجلة والفرات بعد تدفقهما قروناً خلت، وشهدت تاريخاً حافلاً بالفيضانات أسبغ على بلاد ما بين النهرين ميزة الخصب والنماء طيلة سبعة آلاف سنة أو يزيد من عمر الحضارات السبع التي استوطنت (ميسوبوتاميا) عالم الخصب والأساطير والدهشة الأولى للتحضر ومغامرة أول الحلول البشرية بصناعة العجلة والكتابة، ميزتها على بقية بلاد العالم.
هذا الخصب تحول في العصر الحديث الى جدب وتصحر جراء السدود التركية والإيرانية التي حجزت مياه النهرين، حتى غدت أرض العراق أرض اليباب والعطش وخراب الأمكنة، وما عاد العراق مثلما كان قوياً بوفرة مياهه وخصب أراضيه، بانحسار النهرين، حتى باتت مدناً كثيرة تشكو الظمأ.
انكشاف عاصمة الميتانيين 1500 ق.م
جراء هذا الوضع الخطير في حوض دجلة والفرات والجفاف الذي ضرب المدن العراقية وشحت مياه السدود، لا سيما أكبرها سد الموصل، والانخفاض السريع في مستوى منسوب مياه نهر دجلة، ظهرت مواقع لمدينة كانت مغمورة بالمياه أرّق اسمها علماء الآثار المهتمون بحضارات الشرق القديم، وفي مقدمها مدينة عريقة يعود تاريخها إلى عصر الإمبراطورية الميتانية قبل 3400 عام، اسمها القديم "زاخيكوا"، تقع بقرية كمونة في قضاء سمُيل العائدة لمحافظة دهوك العراقية المحاذية لتركيا.
هذه المدينة التاريخية التي أخفاها نهر دجلة لثلاثة آلاف عام، منذ الزلزال الذي ضربها، حتى انكشفت أخيراً لتقدم إجابات مهمة لعلماء الآثار وتبدد حيرتهم، لا سيما البعثة الألمانية التي تعمل بها الآن، وتنقب فيها لتوثق قيمتها التاريخية والحضارية، وتعد المدينة من المستوطنات الموغلة في القدم، حيث ظهرت معالمها رويداً رويداً لأربع سنوات مضت، مع انحسار مياه سد الموصل على نهر دجلة، الذي غمرها طويلاً، وتكشف عن حضارة الميتانيين الذين عاشوا منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، حتى أسقطهم الآشوريون وأخضعوهم لسلطتهم، وكشفت عن مبانٍ كثيرة وقصور ملكية تعود لعصر الحضارة البرونزية.
أثريون ألمان وعراقيون يسابقون الزمن قبل أن تغمر المياه مجددا المدينة المستكشفة (اندبندنت عربية)
آثار دهوك نحن إزاء اكتشاف مهم
يقول بيكس بريفكاني مدير عام دائرة الآثار في محافظة دهوك لـ"اندبندنت عربية"، "تكمن قيمة الحضارة المغمورة في مياه سد الموصل إلى عدة أمور أهمها إنقاذ الآثار الغارقة من تأثير المياه بعد انحسارها، ولهذا أهمية كبيرة كون تلك الآثار تعبيراً حضارياً وعمارة وفن لأقوام سكنوا في المنطقة، وستكون إرثاً للمتحف في دهوك، كما أنها كشفت عن قصور ومنازل ذات طابقين وأسوار كبيرة وأبراج حماية، تدل على كونها مركزاً حضارياً، يعود تاريخه لحوالى 1550-1350 قبل الميلاد، وتبين عن الأهمية المعمارية والاقتصادية والسياسية في ذلك الوقت".
يضيف مدير الآثار، "أن أهم ما تم توثيقه إلى اليوم جراء التنقيبات هناك: الكشف عن قصر كبير طليت جدرانه بألوان، تدلل على أهمية الموقع بأنه مجمع صناعي، وللمدينة علاقات اقتصادية مع الإمبراطوريات القوية في حينها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أختام وفخاريات وكتابات مسمارية
وكشف الموقع الأثري عن حصيلة من الاكتشافات أهمها وفق بريفكاني، "أختام مسمارية وفخاريات وقبور وجرار بداخلها رقُم طينية بلغت حوالى 100 رقيم من الطين المفخور كتبت بالمسمارية وهي الكتابة السائدة في تلك الحقبة التاريخية".
لكن الأهم في هذا الاكتشاف "لزاخيكوا" التي تم ذكرها بالنصوص البابلية في القرن الثامن عشر قبل الميلاد التي لم يكن موقعها معروفاً قبل هذه التنقيبات، إثبات أن موقعها في كمونة الحالية، التي تبعد حوالى ثلاثة كيلومترات عن قضاء سميل في دهوك، وهي مركز حضاري قديم بل عاصمة إمبراطورية للميتانيين.
ويشير مدير عام آثار محافظة دهوك، "أن الحضارات التي تعاقبت في هذا الموقع كانت تبدأ منذ عصر نينوى الخامس، إلى العصر العثماني، وأن زاخيكوا كانت من أهم المراكز الحضارية في العصر الميتاني، الذي سبق قيام الدولة الآشورية، وأن أكثرية القطع الأثرية المكتشفة من الفخاريات والعمارة تعود إلى هذه الحضارة، مجهولة المعلومات سابقاً، إذ كانت قليلة جداً لأنها حكمت الجزء الشمالي في بلاد الرافدين ولم تكن تجري عليها التنقيبات هناك، حتى تمكنا من التنقيب فيها، جراء انخفاض مستوى المياه في سد الموصل".
مدينة "زاخيكوا" ذكرت بالنصوص البابلية في القرن الثامن عشر قبل الميلاد ولم يكن موقعها معروفاً قبل هذا الاكتشاف (اندبندنت عربية)
امتحان لعلماء الآثار في دهوك
ويؤكد حسن أحمد قاسم، الخبير الأثري ورئيس منظمة آثار كردستان، "وضع هذا الحدث غير المتوقع علماء الآثار تحت ضغط مفاجئ للتحرك بسرعة من أجل إجراء التنقيب لإنقاذ ما يمكن اكتشافه وتوثيقه بأسرع وقت ممكن قبل أن تغمرها المياه مرة أخرى، فقررنا تشكيل بعثة أثرية تضم البروفيسورة إيفانا من جامعة فرايبورك والبروفيسور بيتر فلتزنر من جامعة توبينكن الألمانية، والقيام بتنقيبات أثرية إنقاذية في كمونة بالاشتراك والتعاون مع مديرية الآثار والتراث في دهوك خلال شهري يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) من 2022 الحالي".
يضيف، "في غضون وقت قصير تمكنا من إظهار مخطط بناء المدينة إلى حد كبير، بالإضافة إلى القصر الذي تم تسجيله من قبل، وتم الكشف عن العديد من المباني الكبيرة يعود تاريخها إلى زمن الإمبراطورية الميتانية، التي حكمت أجزاء كبيرة من شمال بلاد ما بين النهرين وسوريا، حيث أظهرت نتائج الحفريات أن الموقع كان مركزاً حضارياً مهماً، للإمبراطورية الميتانية".
يوضح، "من معطيات التنقيب التي أظهرت غنى هذا الموقع والمركز الإمبراطوري الميتاني اكتشاف جرار فخارية تحتوي على أرشيف يضم أكثر من 100 رقيم مسماري، يعود تاريخها إلى فترة بداية سيطرة الآشوريين على المنطقة بعد وقت قصير من كارثة الزلزال الذي ضرب المدينة، حتى أن بعض الألواح الطينية المكتوبة بالمسمارية لا تزال بمظاريفها الطينية غير مفخورة".
بقاء النصوص المسمارية المصنوعة من الطين غير المفخور تحت الماء سليمة حتى الآن أمر مدهش (اندبندنت عربية)
ظهور سطوة الآشوريين
ويأمل الخبراء الآثار في أن هذا الاكتشاف سيوفر معلومات مهمة حول كيفية نهاية فترة الدولة الميتانية وبداية سيطرة الآشوريين على المنطقة، ويرى فلتزنر، "أن بقاء هذه النصوص المسمارية المصنوعة من الطين غير المفخور تحت الماء سليمة حتى الآن أمر مدهش"، في وقت قالت إفانا بولس "إن مبنى المجمع الضخم المكتشف كانت له أهمية خاصة لتخزين كميات هائلة من البضائع فيه، لربما تم خزنها من جميع أنحاء المنطقة".
إن أشد ما يخشاه آثاريو دهوك عودة المياه لغمر المدينة من جديد، كونها تقع في منخفض حوض سد الموصل الذي انحسرت مياهه قسراً جراء السدود التركية، مما يجعلهم في حالة استنفار للتنقيب وإخلاء المدينة من مقتنياتها ونقلها للمتحف بمعاونة بعثة الآثار الألمانية، لدراسة وحل ألغاز تلك الحضارة التي استوطنت شمال العراق.