لا تزال بغداد تعاني من تراكم النفايات في أغلب الشوارع الرئيسة، وحتى الفرعية، فضلاً عن ازدياد هذه الظاهرة في المناطق الشعبية، لتصبح عبارة عن مستنقعات للتلوث.
ويناشد سكان العاصمة على إحدى صفحات التواصل الاجتماعي "صفحة شكاوى محافظة بغداد"، أمين بغداد والمسؤولين بالاهتمام بشكاواهم بإرسال الصور والفيديوهات التي يشجبون من خلالها الوضع المزري لمناطقهم وشوارعهم، التي تتكدس فيها النفايات وتَغيب عنها عيون دوائر البلدية.
المواطنة سميرة محمود (46 سنة)، تشكو من وجود أنقاض البناء على مدار العام وسط الشارع وفوق فتحات تصريف الأمطار. وتعزو ذلك لغياب دور البلدية أو التغاضي لدوافع خاصة. وترجو من بلدية منطقتها محاسبة المسؤول وعدم السماح بالتجاوزات التي تحصل في الطرق العامة.
ويشكو المواطن خضير سلمان (34 سنة)، تراكم الأنقاض والنفايات وطفح المجاري في منطقة الدورة، ويقول "نحن في زمن الأوبئة وهذه هي الشكوى الرابعة ولكن من دون جدوى".
ويرفع أصحاب محلات شارع الربيعي الصرخة قائلين "ندفع 700 ألف دينار (ما يعادل 500 دولار) شهرياً، للتنظيف. ولكن الشارع يعاني الإهمال منذ عام كامل، ما أدى إلى تكدس النفايات ما تسبب بيباس الأشجار في الجزرات الوسطية، التي تحولت إلى جزرات ترابية بعد أن كانت خضراء.
التجاوز على المساحات الخضراء جعل بغداد تتصدر قائمة أسوأ المدن الصالحة للعيش (اندبندنت عربية - محمود رؤوف)
الأسواق والمولات هي السبب
وتقول خبيرة التلوث البيئي إقبال لطيف جابر "جاء ذلك نتيجة الانفتاح بعد 2003 وزيادة الاستيراد بشكل عشوائي، وتزايد انتشار الأسواق والمولات وزيادة القدرة الشرائية".
وتختلف النفايات ما بين علب معدنية وبلاستيكية وورق ومواد إنشائية وبقايا أطعمة تتراكم في مكبات النفايات أو في الطرقات والأحياء، فتبدأ بالتحلل والتخمر لتنتج أحياء مجهرية ضررها كبير على البيئة، لأنها إحدى الوسائل الناقلة للأوبئة، وفي الوقت نفسه هي باعثة للغازات والروائح الكريهة، مثل غاز ثاني أوكسيد الكربون وغاز أول أوكسيد الكبريت وغاز الميثان، التي تعد من الغازات التي تتسبب بالاحتباس الحراري، وارتفاع درجات الحرارة، وسرعة في التبخر السطحي لمياه الأنهار ومياه السدود والخزين الاستراتيجي، كما تتسبب في هلاك الحيوانات والأشجار، وباعتبار أنها سلسلة متكاملة فالنتيجة الطبيعية أن يقع الضرر على الإنسان.
البلاستك هو الأخطر
الباحث والأكاديمي أحمد عبد العال يستذكر "عبوات المشروبات الغازية والعصائر سابقاً كانت بالمطلق زجاجية وقابلة للتدوير، لكن بدأ التحول الأخطر في النفايات مع استخدام العبوات البلاستيكية للمشروبات الغازية.
وما هو جديد نسبياً على الثقافة المجتمعية العراقية (عبوات مياه البلاستيك)، فعلى الرغم من أنها كانت موجودة سابقاً وبشكل محدود، إلا أنها اليوم تُستخدم على نطاق واسع وتُعتبر حاجة أساسية واستهلاكية في كل بيت.
ومع الانفجار السكاني للعراق والذي يزداد بمعدل مليون و250 ألف مولود في السنة الواحدة، ندرك حجم التحدي المخيف لهذه الكتلة البشرية المتنامية والمتكدسة في مدينة بغداد".
ويوضح عبد العال أنه "مع أكثر من ثمانية ملايين شخص يشتركون في مساحة 200 كيلومتر مربع، لنا أن نتخيل حجم النفايات التي تُفرز لو استهلك كل شخص أربع عبوات مياه على الأقل. فنحن أمام 36 مليون عبوة بلاستيك من النفايات مع عدم حساب مئات الملايين من الأكياس البلاستيكية المستخدمة للتسوق، وملايين العبوات المخصصة للأطعمة والمأكولات والتوصيل المنزلي السريع".
ويضمن التصميم الأساسي للعاصمة بغداد على نسبة مناسبة من الأوكسجين إذ كانت المناطق الخضراء تشغل ما نسبته 40 في المئة و60 في المئة منها للسكن، إلا أن المعادلة تغيرت وتراجعت المساحات الخضراء إلى 10 في المئة فقط من المساحة الكلية، ما يعني أن العاصمة فقدت 75 في المئة من نسبة الأوكسجين بحسب التصميم الأساسي، وتحتفظ بـ 25 في المئة فقط.
دعوات لفرز النفايات باعتبار أنه الحل الأفضل للبلاستيك والمواد العضوية والمواد الثقيلة (اندبندنت عربية - محمود رؤوف)
النفعية مكان الجمال
ويتابع عبد العال من الطبيعي أن تختفي مظاهر الجمال والمساحات الخضراء وفضاءات الترفيه، فالحاجة للسكن تتغلب على الحاجات الأخرى، ومع هذا العدد السكاني الهائل وطبيعة الاستهلاك، فالنفعية تقوم مقام الجمال هنا.
في السابق كانت أغلب البيوتات البغدادية تحتوي على حدائق بمساحات مختلفة مزودة بخطوط الماء المخصصة لسقي المزروعات فقط. ويقول "كل هذا اختفى. فعندما يكون سعر المتر المربع الواحد في منطقة سكنية معينة ثلاثة آلاف دولار مثلاً، فإن آخر ما يخطر على بال أحدهم أن يوفر مساحة خضراء". ويضيف "تحولت البيوت الآن إلى علب خرسانية خانقة بسبب غياب المساحات الخضراء واختفاء البساتين المحيطة ببغداد، ما زاد من مشكلة التصحر وتردي البيئة".
كل ذلك انعكس نفسياً على المواطن وأدى الى ارتفاع وتيرة الغضب والانفعال لديه، ولو جمعنا العواصف الترابية مع ضيق المساحات السكنية وأضفنا إليها دخان مولدات الكهرباء الخانق، سنجد أننا أمام حالة نفسية وسلوكية مدمرة للمواطن العراقي.
والحل يكمن في بناء عاصمة جديدة خارج التجمعات السكانية الهائلة، ونقل كافة مؤسسات الدولة المهمة إليها والشروع ببناء مدن جديدة.
هيمنة الأحزاب
ويقول المواطن أمين مجيد "تخضع الدوائر البلدية في أغلب مناطق بغداد وخصوصاً تلك التي تهيمن فيها الأحزاب، إلى المحاصصة، وتصل التدخلات حتى في أقسام النظافة من قبل القوى المهيمنة التي تتلاعب بأجور العمال من خلال اقتطاع نسبة معينة أو بإضافة أسماء وهمية. لذا يضعف مستوى الأداء والخدمة، وتبقى المناطق مهملة ويتزايد تراكم النفايات. ويعتبر القطاع البلدي من القطاعات التي تدر على هذه الأحزاب والتنظيمات أموالاً طائلة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
احتباس حراري
وفي هذا الصدد، تحدث خالد سليمان، صحافي متخصص في القضايا البيئية وتغير المناخ، قائلاً "تترك المخلفات آثاراً بيئية ضارة على المجتمع في حال الحرق أو الطمر، هذه المخلفات تؤدي إلى تلوث الهواء في المدينة، وإن كانت المَطمَرة بعيدة عن المدينة، فنحن حين نتحدث عن الجو والهواء نقصد أن لدينا سماء واحدة وبيئة واحدة، فلا يمكن الفصل بين مدينة بغداد وأطرافها".
وبحسب دراسات جديدة في مجال علوم البيئة، تشكل المخلفات نسبة (واحد في المئة) من الغازات الدفيئة في الجو، يعني الغازات التي تسبب الاحتباس الحراري، وهي نسبة ليست قليلة. وهناك عوامل أخرى، وتحديداً غاز الميثان، حتى وإن تم حرقه فيؤدي إلى توليد غاز الكربون بالإضافة إلى غازات أخرى ضارة، وإذا تم طمر النفايات فذلك يؤدي إلى توليد غاز الميثان.
ففي كلتا الحالتين، نلاحظ أن لهذه المخلفات أضراراً صحية على جودة الهواء من جهة، وعلى زيادة الغازات المسببة للاحتباس الحراري في الجو من جهة أخرى.
فرز المخلفات
ويتابع سليمان "الأفضل فرز المخلفات، نحن لم نصل إلى هذه المرحلة من المعالجات، لكنه الحل الأفضل للبلاستيك والمواد العضوية والمواد الثقيلة وغيرها، وحين يتم الفرز يمكن إعادة تكرير هذه المخلفات. ويبدو أننا بعيدون عن تنفيذ هذه الحلول، ولكن لا بد من التطرق لها".
أما جابر فاقترحت نشر الوعي البيئي بين الناس وعلى الأصعدة كافة، وضرورة حث المواطنين على عزل وفرز النفايات بحسب نوعها، لغرض تدويرها لإنتاج طاقة صديقة، فضلاً عن إنتاج أسمدة ووقود وغاز حيوي.
أُسس جديدة لملف النفايات
رئيس اللجنة المالية النيابية حسن الكعبي كان كشف في وقت سابق أن قانون الدعم الطارئ للأمن الغذائي والتنمية سيتضمن، وللمرة الأولى منذ 18 عاماً، تخصيصات إضافية لأمانة بغداد قدرها 500 مليار دينار (أكثر من 342 مليون دولار) تخصصها لخدمة وإعمار العاصمة.
كما أعلنت وزارة البيئة إرسال مسودة القانون الجديد لإدارة النفايات إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء. وتركز المسودة على وضع أسس جديدة لملف النفايات في العراق، ودعم الاستثمار واستخدام النفايات لإنتاج الطاقة الكهربائية، بما يتوافق مع التزامات العراق الدولية تجاه ملف التغيرات المناخية واتفاقية باريس، وبما يضمن إعادة التدوير والإدارة الرشيدة لهذا الملف.
أسوأ المدن
كما أن تراجع الاهتمام بإدامة المساحات الخضراء تسبب في زيادة نسبة التصحر فيها، فالتجاوز على هذه المساحات وتحويلها إلى أماكن سكنية أو محال تجارية، جعل بغداد تتصدر قائمة أسوأ المدن الصالحة للعيش.
ومشكلة النفايات في العراق معقدة نوعاً ما، فهي ترتبط بالثقافة العامة للمجتمع وطريقة تعامله مع النفايات والاختلاف النوعي تبعاً للوعي، وبعضها الآخر يرتبط بتطور الحياة نفسها وسيادة النمط الاستهلاكي غير المدروس، والذي أفرز نوعيات غير معهودة من النفايات فوق طاقة وتحمل أي مؤسسة.
ويبلغ معدل النفايات البلدية للشخص الواحد في العراق حوالى 1.2 كيلوغرام يومياً، وبما أن عدد سكان مدينة بغداد يبلغ ما يقارب ثمانية ملايين نسمة، فهي تنتج ما بين 8-10 آلاف طن يومياً من النفايات البلدية، بحسب تصريح وزارة البيئة.