هيّ "حديث القرية" في العراق هذه الأيام، تسريبات تسجيلات لرئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، كان رئيساً للوزراء دورتين (2006-2014)، لعلها أسوأ مراحل التاريخ السياسي العراقي منذ سقوط صدام حسين عام 2003: اقتتال طائفي، ومجازر إرهابية طائفية بإشراف مؤسسي، وعمليات إرهابية مروّعة لـ"القاعدة" و"داعش"، وسيطرة لـ"داعش" على ثلث العراق عام 2014، حتى وصلوا إلى مشارف بغداد وكربلاء، بعد أن سلّمهم جيش المالكي الموصل من دون قتال، ولولا التحالف العربي - الغربي والتفوق الجوي لهما لاحتل "داعش" العراق بأكمله.
شخصياً، لم أجد في التسجيلات من جديد حول لغة المالكي الطائفية، ولم أرَ فيها سوى تسريبها بحد ذاته، فالرجل لا يتكتم على طائفيته البغيضة، ولا يمارس تقية سياسية لإخفائها، ولا ينكر أن العراق للشيعة وحدهم، وقد قرن القول بأفعال مخزية في أثناء ترؤسه الحكومة مرتين، مارست قواته خلالها سياسة "تطهير" طائفي يضاهي همجية "داعش" في قتل وطرد المخالفين لها مذهباً وديناً.
المالكي أنكر صحة التسريبات، وأصدر بياناً يدّعي فيه أنها ضمن المؤامرات التي تُحاك ضده، لأنه منقذ الشيعة وحامي حماهم في العراق. لكني أظن أن التسريبات قد تكون آخر مسمار في نعش المالكي السياسي، وربما نعشه نحو القبر، فقد اجتاح أنصار الصدر بالأمس (مساء الأربعاء) المنطقة الخضراء، واقتحموا مجلس النواب احتجاجاً على خبر ترشيح "الإطار التنسيقي"، أي القوى الشيعية السياسية الموالية لإيران، للسيد محمد شياع السوداني الذي يعتبره المحتجون من رجال المالكي، فما بالك برد فعلهم لو أن المرشح هو المالكي نفسه؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
احتجاج التيار الصدري على ترشيح رئيس الوزراء، حتى ولو كان المالكي نفسه، هو إضافة لفوضى المشهد السياسي العراقي وتعقيده، فالتيار سحب نوابه الذين فازوا بالانتخابات البرلمانية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وقدموا استقالاتهم ليفسحوا المجال لغيرهم لتشكيل الحكومة! فمن انسحب، وهو الغالبية، لأنه لم يستطع تشكيل الحكومة بسبب احتجاج الأقلية تضعف حجة اعتراضه على تسمية رئيس الوزراء بعد الانسحاب. المهم أن المحتجين قد انسحبوا بعد أن حققوا "جرة إذن"، كما ورد حرفياً بتغريدة نشرها على حسابه أقوى رجل في عراق اليوم، السيد مقتدى الصدر! هكذا هي إذن، مجرد "جرة إذن" باللهجة العراقية.
قبل ساعات من كتابة هذا المقال، كان العراق على وشك اقتتال شيعي – شيعي، تشير التقارير إلى أن إيران وراء إيقافه حتى الآن حفاظاً على "وحدة البيت الشيعي"، فقد ذكرت تقارير أن الجنرال إسماعيل قآني، قائد فيلق القدس بالحرس الثوري بإيران، كان ببغداد يوم الأربعاء لساعات، وتسرّب أن الضغط الإيراني وصل حد التهديد بالتدخل المباشر لوقف الأطراف التي يمكن أن تبدأ القتال. أما نوري المالكي، بطل التسريبات، فقد ظهر محاطاً بحرسه، ممتشقاً بندقيته، متأهباً للقتال مع التيار الصدري، الذي هدده المالكي بالتسريبات بسحقه والقضاء عليه.
على رغم اقتحام المنطقة الخضراء ومجلس النواب من قبل المحتجين على تسمية محمد السوداني رئيساً للوزراء، فإن الإطار التنسيقي متمسك بترشيحه، وهو ما قد ينذر بتصاعد الأمور وتفاقمها. لقد تجاوزت الأمور التسريبات، وقد تصل لما هو أخطر من ذلك. فالطريق أمام معادلة الحكم في العراق ليست سالكة، بحسب النظام والدستور القائم، ومن ثمّ فإن تغييره حتمي، وإلا فإن العراق سيخرج من أزمة ليدخل أخرى، وقد تكون كل مرحلة أسوأ من سابقاتها.