مخيم "بزيبز": عراقيون غائبون في طي "النزوح"

آخر تحديث 2022-09-02 00:00:00 - المصدر: اندبندنت عربية

"كانت مدينتنا من أجمل المدن، بيوتنا تحيطها أراضينا الزراعية العامرة بالأشجار، كنا نمثل سلة العراق الغذائية، فنبيع محاصيلنا للمحافظات ونعيش منها، الآن تحولت إلى إنسانة لا أملك في الحياة سوى هذه الخيمة، داهمتني الأمراض التي لا أجد المال الكافي لعلاجها، وملأني اليأس من العودة لبيتي، فأنا هنا منذ ثماني سنوات".

هكذا تحكي أم مريم، النازحة من منطقة جرف الصخر التابعة إدارياً لمحافظة بابل التي تعيش حالياً في مخيم "بزيبز" بمنطقة عامرية الصمود التابعة لمحافظة الأنبار، قصتها مع النزوح، وهي تحاول سد الثغرات في خيمتها لتحمي أبناءها من قسوة حرارة الصيف التي تصل إلى أكثر من 51 درجة مئوية في العراق.

منطقة بزيبز التي تقام عليها الآن مخيمات النازحين من مناطق جرف الصخر والعويسات، هي منطقة ريفية تابعة إدارياً إلى قضاء عامرية الصمود في محافظة الأنبار، يتوزع فيها النازحون على مخيمات تقسم إلى 10 قطاعات، تحتوي هذه القطاعات على 1362 عائلة، أي ما يقارب ثلاثة آلاف طفل.

أغلب تلك العائلات يسكنون الخيام، لكن بعضاً منهم شيد بيوتاً من الطين والكرفانات الخشبية، وأغلبية العوائل هم من ذوي الدخل المحدود الذي لا يكفي لسد حاجاتهم الرئيسة، وأغلبهم كانوا يعملون في الزراعة ويعيشون على بيع محاصيلهم الزراعية، وبعد نزوحهم وتركهم منطقتهم جرف الصخر تدهورت أوضاعهم المعيشية.

بالكاد يحصل هؤلاء النازحون على غدائهم، أما العلاج الطبي للأمراض التي يعانون منها فهو بالنسبة إليهم رفاهية لم يتمكنوا من الوصول إليها، ويطوي أهالي جرف الصخر والعويسات أحزانهم خلف خيامهم المتهرئة في "بزيبز"، فهم عجزوا عن الحديث عن وجعهم، ويصمتون عن أمراضهم، فما لديهم لا يكفي للغذاء، فكيف بالدواء.

في "بزيبز" خيام لا تقي حر الصيف ولا برد الشتاء، ولا تسد عن قاطنيها رمال العواصف الترابية، ولكل منها قصة يرويها أصحابها بدموع وألم.

مغيب وشهيد ومعتقل

تعيش عجمية عيسى خضير مع أحفادها الـ16 وزوجها المقعد الذي استغى عن علاجه من أجل أن يوفر الطعام والملبس لأحفاده.

خضير فقدت أربعة من أبنائها بين منتسب في الشرطة اغتاله تنظيم "داعش"، وثان غيب في منطقة بحيرة الرزارة من قبل الميليشيات الموالية لإيران، والابن الثالث معتقل بسجن الحوت في الناصرية منذ عشرة سنوات بتهمة كيدية، والابن الأخير اعتقل بعد محاولته تجديد أوراقه الثبوتية لكي يحصل على البطاقة الموحدة التي تسمح له بالحصول على البطاقة التموينية وتسجيل أطفاله في المدارس.

أما الأب حميد موسى الذي داهمته الأمراض وأقعدته عن الحركة فهو لا يسمع له صوت غير الأنين والبكاء، ينادي على أبنائه الأربعة ويؤلمه حال أحفاده ولا يعرف مصير بيته الذي تركه خلفه في جرف الصخر، فهو لم يصل إلى المنطقة منذ التحرير من "داعش" في عام 2014.

يتمنى موسى أن يعود لأرضه، ويقول "حتى لو كان بيتي مهدماً أنقل هذه الخيمة وأعيش في أرضي تحت ظلال أشجاره".

من دون أوراق ثبوتية

وفي العراق الذي يقدر عدد المغيبين فيه منذ عام 2015 بـ26 ألفاً، جلهم من المناطق التي سقطت بيد تنظيم "داعش"، ومنها جرف الصخر، فكثير منهم غيبوا ولم يعرف مصيرهم لغاية الآن، وغالباً ما يتخوف أهالي المنطقة من مراجعة الدوائر الرسمية خشية الاعتقال، وبالفعل اعتقل كثير منهم عند محاولتهم تجديد أوراقهم الثبوتية.

الأب حميد موسى فقد أربعة من أبنائه ويعيش مع زوجته التي تعتني به وبأحفاده (اندبندنت عربية)

 

هذا التغييب يلقي بظلاله النفسية الصعبة على العوائل بعد غياب المعين لهم، كما أن الأغلب الأطفال من منطقة جرف الصخر لا يمتلكون الأوراق الثبوتية بسبب تغيب آبائهم، إذ يشترط لغرض الحصول على الوثائق الرسمية حضور الأب، فالأطفال يحملون فقط (بيان الولادة) كوثيقة رسمية، وهو غير كاف لغرض الالتحاق بالمدارس.

نازحون منسيون

في عام 2021، أعلنت وزارة الهجرة والمهجرين العراقية أنها أغلقت مخيمات النازحين، باستثناء بعضها بإقليم كردستان التي يوجد فيها نازحون من إقليم سنجار، فبعد تحرير المناطق أعيد النازحون إلى مناطقهم باستثناء أهالي منطقة جرف الصخر والعويسات، إذ تسيطر الميليشيات الموالية لإيران على هذه المناطق وتمنع أهاليها من العودة إليها، وعلى الرغم من مرور ثماني سنوات على تخليص المنطقة من "داعش" لم تعد أية عائلة إلى المنطقة بسبب رفض الميليشيات.

ويبلغ تعداد أهالي منطقة جرف الصخر 75 ألف نسمة، أما منطقة العويسات فتعدادها سبعة آلاف نسمة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

شاكر محمود العيساوي قائمقام عامرية الصمود التابعة لمحافظة الأنبار أوضح أن الحل لمشكلة أهالي جرف الصخر والعويسات يتطلب إصدار قرار حكومي لإعادة هذه العوائل، لكن الصمت الحكومي وتخلي المسؤولين عن مسؤولياتهم سيسهم في تفاقم أوضاع النازحين، فهم يعيشون أوضاعاً صعبة.

وقال العيساي إن قرار إغلاق المخيمات من قبل وزارة الهجرة والمهجرين أثر سلباً في عوائل جرف الصخر، فانقطعت عنهم المساعدات الطبية والإنسانية، التي كانت تزودهم بها المنظمات الدولية والمحلية باعتبار أن هذا الملف تم إغلاقه.

وفي السياق نفسه، أشار الناشط المدني أمير سامي الدحل إلى أن قرار إغلاق المخيمات الأخرى أثر سلباً في ساكني مخيمات نازحي جرف الصخر والعويسات، فـ"عندما كانت المخيمات كثيرة كانت المنظمات تتوافد إليها يومياً لتقديم المساعدات الإنسانية، أما الآن فانقطعت المساعدات مع عودة أكثر العوائل لمناطقهم".

وقال الدحل إن قرار الحكومة بشأن إغلاق المخيمات كان يخص نازحي محافظة الأنبار فقط، أما بالنسبة لنازحي جرف الصخر والعويسات فقرار إغلاق مخيماتهم يقترن بضمان عودتهم إلى ديارهم".

شحة الحياة

"أقضي الليل أراقب أبنائي، فأنا أخشى عليهم من العقارب التي تنتشر في هذه المنطقة، وفي النهار أبدأ يومي بنقل الماء الخاص بالشرب، فنحن نضطر إلى شرائه من مناطق بعيدة بعد عطل أجهزة تصفية الماء التي وضعت لنا في بداية النزوح بالقرب من خيامنا".

هكذا تروي النازحة سندس سعد حمد قصتها، إذ إن لديها ثلاثة أطفال يعانون حالات طبيبة حرجة في الدماغ، وهم بحاجة إلى علاج مستمر، مضيفة "لا يمكنني أن أستمر على العلاج، بل أشتريه عندما يتوفر لي المال عن طريق عطاءات الناس، وعندما لا أملك المال لن أتمكن من شراء العلاج، ما يجعل حالتهم تسوء باستمرار، فهم بحاجة إلى أخذ العلاج يومياً".

بدأ نزوح أهالي جرف الصخر التابعة لمحافظة بابل في عام 2014 واستقروا بمنطقة "بزيبز" التابعة لمحافظة الأنبار (اندبندنت عربية)

 

أغلب الموجودين في مخيم "بزيبز" عزفوا عن شراء حاجاتهم من الأدوية، فما لديهم من المال لا يكفي لسد حاجاتهم الغذائية، فتفاقمت عليهم الأمراض، وتزاحم عليهم الألم، ومما زاد عليهم شحة الحياة ارتفاع الأسعار وانقطاع المساعدات الإنسانية.

تقول أم محمود، نازحة من جرف الصخر، "كانت تصل إلينا المواد الغذائية، لكنها انقطعت تماماً مع قرار إغلاق المخيمات"، مضيفة "لا أشعر أنني إنسانة على قيد الحياة، ولا أشعر أنني ميتة، فأنا أعاني باستمرار من ضيق اليد والحياة الصعبة في هذه الخيمة".

بالعودة إلى الناشط المدني أمير سامي الدحل يشير إلى أن قسم شؤون المنظمات في ديوان محافظة الأنبار، وبالتعاون مع المنظمات الإنسانية، يقدم المساعدات للنازحين، لكنها ليست بالمستوى المطلوب، والآن تفتقر هذه المخيمات إلى عديد من الخدمات، أهمها صعوبة وصول الماء، وعدم توفر مولدات، إضافة إلى تردي كبير في تقديم المساعدات الغذائية والصحية.

الهرب من العواصف الترابية

شدة الحر وقسوة برد الشتاء وصعوبة العيش ليست وحدها ما يحاصر أهالي مخيم "بزيبز"، فالعواصف الترابية تدور داخل خيامهم التي لا يمكنها حمايتهم من شدة العواصف. وتقول أم محمود نازحة من جرف الصخر، إنها تضطر إلى الذهاب والإقامة عند أختها التي تمكنت من بناء غرفة لها من الطين عندما تشتد العواصف الترابة، أم محمود التي تعاني الربو ترى أن الغرفة الطينية هي السبيل لحمايتها من العواصف الترابية التي لا ترحم.

أغلقت الحكومة العراقية مخيمات النزوح متناسية أهالي جرف الصخر والعويسات، فشرط عودة النازحين هو ضمان أن مناطقهم تحررت من "داعش"، لكن جرف الصخر تحررت من التنظيم لتسقط من جديد بيد الميليشيات الموالية لإيران التي لا تسمح بعودة أهالي المنطقة لبيوتهم وأراضيهم وتحرمهم من حلم العودة إلى منطقتهم.

وتدعي تلك الميليشيات بشكل مستمر أن المنطقة لم تطهر من الألغام، على الرغم من مرور ثمانية أعوام على تحريرها من "داعش"، وهي حجة واهية، فالميليشيات تستخدم هذه الأراضي كمخازن للأسلحة ومقار للفصائل.