تبدو الذكرى السنوية لـانتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) 2019 العراقية مختلفة هذا العام إذ تتزامن مع تعقيدات كبيرة باتت تعصف بالبلاد على المستوى السياسي. ففيما كان أحد أبرز محركات الانتفاضة الأولى هو تصاعد النفوذ الإيراني في البلاد تبدو الأجواء السياسية مشابهة هذه المرة خصوصاً مع طموح "الإطار التنسيقي" الذي يضم كتل الجماعات المسلحة الموالية لإيران الوصول إلى رئاسة الوزراء.
وتدفع تفاعلات الأزمة السياسية في البلاد باتجاه أن يكون إحياء الذكرى السنوية للانتفاضة محفزاً لاحتجاجات واسعة، إضافة إلى مرور ثلاثة أعوام من دون تحقيق أي من مطالب المحتجين وعلى رأسها محاسبة قتلة المتظاهرين وإنهاء المحاصصة وتحقيق الحكم الرشيد، بحسب ناشطين.
ويستمر الناشطون بالعراق في محاولة التحشيد لإحياء الذكرى الثالثة لانتفاضتهم لإعادة ترويج المطالب التي يرون أن شيئاً منها لم يتحقق. ويجري هذا بالتزامن مع النقمة التي يعيشها "التيار الصدري" بعد الصدامات المسلحة التي حصلت في المنطقة الخضراء نهاية أغسطس (آب) الماضي.
وعلى رغم رغبة "تيارات تشرين" و"التيار الصدري" في الاحتجاج فإن العديد من الخلافات بين الطرفين لم يتم تسويتها وهو الأمر الذي يعقد المشهد بالنسبة إلى الاحتجاجات المقبلة.
تصعيد أم استذكار؟
تشهد بغداد منذ نحو أسبوع تدابير أمنية واسعة وقطعاً لطرق رئيسة في جانبي الكرخ والرصافة فضلاً عن إحاطة المنطقة الخضراء الحكومية بالكتل الكونكريتية تحسباً لاحتمال اقتحامها من قبل المحتجين.
وإضافة إلى العاصمة بغداد تستعد محافظات عدة في وسط البلاد وجنوبها لإحياء الذكرى السنوية للانتفاضة، وهو ما قد يزيد من احتمال أن تشهد هذه الذكرى تصعيداً ربما يعد الأكبر منذ أكتوبر 2019.
وعلى رغم التقاطع الكبير بين معظم القوى المدنية أو ما يطلق عليه "قوى تشرين" من جهة والتيار الصدري من جهة أخرى وتغيير أماكن احتجاج "القوى التشرينية" إلى ساحة النسور في جانب الكرخ فإن العديد من "القوى التشرينية" أعلنت عزمها اقتحام المنطقة الخضراء. وهو ما يعطي انطباعاً أن ما يجري الإعداد له لا ينحسر في مساحة إحياء الذكرى السنوية للانتفاضة فحسب.
وشهد الأسبوع الماضي عقد مؤتمرات عدة لشخصيات وقوى ضمن "حراك تشرين"، ففي 23 سبتمبر (أيلول)، أكد عدد من القوى وممثلي الكيانات الناشئة ضمن "الاجتماع التشاوري لقوى الاحتجاج والتغيير" في محافظة ذي قار دعم "الاحتجاج السلمي المعارض للسلطة والهادف للتغيير".
أما في محافظة واسط فأعلنت "اللجنة المركزية للاحتجاج" عن خطواتها "التصعيدية" المقبلة من خلال دعوتها الجماهير إلى النزول إلى ساحة النسور في الأول من أكتوبر المقبل متوعدة بـ"دخول المنطقة الخضراء لتبيان موقف الشعب من عقر دار السلطة".
وبالتزامن مع الدعوات إلى التظاهر انطلقت حملات على وسائل التواصل الاجتماعي لتحشيد الشباب للاشتراك في التظاهرات المرتقبة، إذ تصدر وسما "موعد_وطن" و"تشرين_قادمة" منصات التواصل الاجتماعي في البلاد.
وعلى رغم ذلك ما زالت المخاوف تحيط بعدد من ناشطي الحراك الاحتجاجي، إذ يعلن ناشطون عن مخاوفهم من استخدام "التيار الصدري" تظاهراتهم لتحقيق غايات سياسية. وقد استخدم مدونون وسم "تشرين ضد التيار والإطار"، فيما استخدم آخرون وسم "لن_يركبنا_الصدر".
ظروف متوافرة للثورة
ربما يحفز القصف الإيراني لمدينة السليمانية في شمال العراق أجواء الغضب في سياق المحتجين الذي لطالما كان رافضاً لتدخلات طهران ونفوذها من خلال أذرعها في العراق.
وتتزامن الذكرى السنوية للانتفاضة هذا العام مع تظاهرات تعم معظم المدن الإيرانية، وهو الأمر الذي يراه مراقبون محفزاً إضافياً على توسيع دائرة الاحتجاج في العراق.
ويرى الكاتب محمد عزيز أن ذكرى الانتفاضة هذا العام لن تكون على غرار إحياء الذكرى السابقة بطريقة كلاسيكية، مبيناً أن "حجم الاستقطاب داخل أجواء الاحتجاجات يبدو واسعاً".
وتبدو الآراء متباينة داخل أجواء المحتجين إذ يعتقد طيف كبير بإمكانية تحويل الذكرى إلى فعل احتجاجي واسع. أما في الجانب الآخر فثمة من يعتقد أن الوقت ليس مناسباً نتيجة الاستقطاب الواسع بين "الإطار التنسيقي" و"التيار الصدري".
ويرى عزيز أن "الأوضاع العراقية سيئة ومحبطة والأفق مسدود بالنسبة إلى الشباب إذ لم يحصلوا على ما خرجوا من أجله في 2019، وهذا يعد أبرز محفزات احتجاجات واسعة جديدة"، مضيفاً أن "كل ظروف الثورة متوفرة في الوقت الحالي وما يمنع هو أمور فنية وتنسيقية بين أطراف الاحتجاج".
ولعل ما جرى من عمليات اغتيال ممنهجة قامت بها الجماعات المسلحة الموالية لإيران ضد ناشطين بارزين، بحسب عزيز تسهم إلى حد ما في "تقويض إمكانية نشوء موجة عارمة من الاحتجاجات".
ويضيف أن "الحركة الاحتجاجية لم تلملم جراحها بما يكفي خلال السنوات الثلاث الماضية، بعد الاستهدافات الواسعة لفئة الأكثر نشاطاً في أجوائها، سواء عبر الاغتيال المباشر أو عمليات القتل الميداني التي طالت المئات فضلاً عن التهديدات التي دفعت آخرين إلى مغادرة البلاد".
ويتابع أن تلك العوامل تمثل "إشكالات لوجيستية أمام إعادة الاحتجاج بالزخم الذي كان عليه عام 2019".
ويختم أنه على رغم صعوبة التكهن بحجم الاحتجاجات المقبلة فمن السهل التأكد أن الأوضاع الحالية مفتوحة على احتجاجات سواء بالطريقة التي انطلقت بها "انتفاضة تشرين" أو بطرق أخرى غير متوقعة.
محفزات جديدة للاحتجاج
لعل ما يدفع إلى توقعات بموجة كبيرة من الاحتجاجات هذه المرة هو العودة إلى المحاصصة الطائفية الشاملة من قبل الكتل السياسية، مع ملامح تشكل ائتلاف واسع لا يستثني أي كتلة من الحصول على مكاسب في التشكيلة الحكومية المقبلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعتقد أستاذ العلوم السياسية عصام الفيلي أن من بين محفزات تحول الذكرى السنوية للانتفاضة إلى موجة احتجاجية كبيرة هو "طبيعة التحدي الذي يحاول الإطار التنسيقي فرضه من خلال التمسك بحكومة إطارية وإعادة فرض معادلة التوافق"، لافتاً إلى أن هذه التحديات "لا ترتبط بالتيار الصدري فحسب بل بكل القوى الفاعلة في الشارع والمناوئة للنفوذ الإيراني".
وعلى رغم التطمينات التي يحاول مرشح الإطار للحكومة إطلاقها، بحسب الفيلي، فإنها "لن تحظى بقبول الشارع الاحتجاجي"، مضيفاً أن "ثمة قطيعة تامة بين أوساط الاحتجاج وقوى الإطار تنذر بانتفاضة ربما ستكون أكبر من السابقة".
ويشير الفيلي إلى أنه على رغم من التقاطعات بين "التيار الصدري والقوى التشرينية فإن حراك التيار ونقمته على احتمال سيطرة الإطار التنسيقي على السلطة في البلاد حفزا الجو العام على الخروج في احتجاجات واسعة".
ولا يستبعد الفيلي أن تكون تظاهرات إيران محفزاً مهماً لانطلاق موجة احتجاجية واسعة في العراق، مردفاً أن "امتلاك طهران أدوات كفيلة بالقمع لم يثن الإيرانيين على التظاهر، وهو ما قد يشجع الشارع العراقي على ذلك".
معرقلات الاحتجاج
في المقابل يشير الكاتب مصطفى ناصر إلى معطيين رئيسين يؤثران في مسار الاحتجاجات المقبلة، يتعلق الأول "بحجم الخلافات الداخلية في أجواء الناشطين والقوى المنبثقة عن الانتفاضة وهو ما أدى إلى تحشيد متفرق بين من يود جعلها مناسبة استذكارية ومن يحاول الدفع للتصعيد الاحتجاجي".
أما المسار الثاني فيرتبط، بحسب ناصر، بـ"محاولات التيار الصدري دفع المتظاهرين والسيطرة على مفاصل تظاهراتهم لتصويرها كغضب شعبي عارم على حكومة الإطار قبل تشكيلها لتهيئة الأجواء لمحاصرة المنطقة الخضراء أو ربما اقتحامها من جديد".
ويرى ناصر أن حجم اليأس وعدم الثقة في الأوساط العراقية بلغ أعلى مستوياته بعد فشل الحركة الاحتجاجية عام 2019 في تحقيق مطالبها. وهو الأمر الذي ربما يعد عاملاً معرقلاً لإمكانية نشوء احتجاجات واسعة وطويلة الأمد.
ويعتقد ناصر أن الغاية الرئيسة لـ"التيار الصدري" في المرحلة الحالية هي "الإبقاء على مصطفى الكاظمي رئيساً للوزراء إلى حين إجراء انتخابات جديدة وعرقلة إمكانية استبداله بمرشح من الإطار التنسيقي لإدارة المشهد الانتخابي".
ويختم ناصر "حتى لو لم تدخل القوى المدنية في سياق احتجاجات واسعة فإن التيار الصدري سيكون متأهباً لاستغلال الذكرى السنوية للانتفاضة لتحفيز احتجاجات واسعة".