"سرقة القرن" تفتح ملف أموال العراق المنهوبة

آخر تحديث 2022-10-20 00:00:00 - المصدر: اندبندنت عربية

تلقى العراقيون إعلان وزير المالية المنتحي من منصبه بطلب من البرلمان إحسان عبد الجبار عن أكبر سرقة في التاريخ العراقي المعاصر من أمانات التجار المتعاقدين مع الدولة والمودعة كتأمينات تسترد بعد استكمال المشاريع، بالذهول، فالأموال المسروقة من أموال التأمينات الدورية للتجار لدى هيئة الضرائب الرسمية بلغت 3.7 تريليون دينار عراقي (نحو مليارين ونصف المليون دولار) تم الاستحواذ عليها من قبل زمرة وصفت من قبل مراقبين بـ"الفاسدة"، وبتواطؤ مكشوف من إدارات مالية في الهيئة المذكورة، وكذا إدارات مصرفية عليا، وأخرى لم تكشف هويتها.

وجرى تحويل المبلغ إلى خمسة مصارف جديدة أنشئت لهذا الغرض، وهي وفق المصادر المطلعة (الحوت، والأحدب، والمبدعون، ورياح بغداد، وبادية المساء)، وقد وصفت هذه السرقة، التي جرت عبر أكثر من 247 شيكاً سحبت من مصرف "الرافدين" الحكومي، بأنها "سرقة القرن"، وما زالت تتكشف أوراقها من دون الإعلان عن الجهات الحزبية والسياسية التي تقف وراءها.

كيف تمت سرقة القرن؟

خلصت مصادر عراقية عدة إلى أنها عمل محكم تم بتواطؤ من جهات عليا وفرت الغطاء الحكومي له، إذ جرى سحب الأموال من حساب في مصرف "الرافدين" اسمه (حساب الأمانات) وتستقطع أمواله من أي شركة تتعاقد مع الدولة العراقية كضمان لدفع ضريبة الدخل في ما بعد والتأكد من سلامة تنفيذ العقد، وللشركة المودعة الحق في استعادة المبلغ بطلب تحريري لهيئة الضرائب يخضع للتدقيق الرقابي والمحاسبي، بعد إنجاز أعمالها وتنفيذ التعاقد وتسليم المشروع بصورة نهائية ودفع كل المستحقات المترتبة عليها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وغالباً ما تكون استعادة المبلغ المؤمن من خلال إجراءات طويلة وروتينية ومعقدة تجعل أصحاب الشركات المتعاقدة مع الدولة في حال من اليأس حيال إمكانية استرجاع تلك الأموال، بحسب وصف الباحث غازي رحو، لذلك فإن الموظفين في هيئة الضرائب يدركون استحالة تقديم الشركات طلبات استرداد المبالغ لأنهم سيواجهون بغرامات إضافية كون الشركة لم تنفذ التعاقد بصورة دقيقة، كما يؤكد لنا الباحث حميد الساعدي.

سجل الدولة العراقية يشير إلى أن رئيس الحكومة السابق حيدر العبادي طلب في فبراير (شباط) 2017 من خلال مكتبه أن تجري عملية تدقيق لإعادة مبالغ الأمانات من خلال ديوان الرقابة المالية الحكومي، لكن الأمر تغير لأسباب تجهلها اللجنة التحقيقية المشكلة حالياً، فلماذا طلبت اللجنة المالية في مجلس النواب من وزير المالية أن تقتصر عملية التدقيق على هيئة الضرائب حصراً من دون مشاركة ديوان الرقابة المالية وهو الجهة الرصينة والخبيرة في التدقيق المالي، وقد رفع كتاب رسمي بذلك لوزير المالية علي علاوي في أغسطس (آب) بدعوى تخفيف الروتين، وتم تأكيد الطلب مرة أخرى بصورة لافتة من مكتب رئيس الوزراء هذه المرة خلال الشهر نفسه، كما أصر رئيس هيئة الضرائب على اقتصار التدقيق الرقابي على الهيئة، وهو المتورط رقم واحد في هذه القضية، ليبدأ لاحقاً سحب تلك الأموال لحساب المصارف الخمسة، وبعدها تم تعيين هيثم الجبوري مستشاراً مالياً لرئاسة الوزراء.

يتهم النائب باسم خشان مستشار رئيس حكومة تصريف الأعمال ورئيس اللجنة المالية السابق في البرلمان هيثم الجبوري بما وصفه بـ"التستر على سرقة أمانات الضرائب"، وأنه صاحب مقترح تدقيق صرف مبالغ الأمانات من قبل الهيئة العامة للضرائب، وهو المقترح الذي شكل الغطاء الذي كانت الهيئة تتمناه.

وقال النائب إن "رئيس اللجنة المالية تم تعيينه مستشاراً لرئيس مجلس الوزراء ربما ليكمل ما بدأه في مجلس النواب، وحسب ما وصلنا من معلومات فإن له استشارة في هذا الموضوع بالذات، وسوف نفعل كل ما نقدر عليه لتسترد الدولة أموالها التي سرقت في وضح النهار، وتتم محاسبة كل المتورطين بهذه الجريمة التي ربما تكون من أكبر السرقات في التاريخ" على حد قوله.

المستشار الحكومي يتصدى

لكن هيثم الجبوري يسوغ مقترحه بالقول "لو عدت رئيساً للجنة المالية البرلمانية عشر مرات لفعلت الشيء نفسه، لأنني مقتنع بمبدأ أن من يراقب عليه ألا يشترك بالتنفيذ، وتقتصر صلتي بالمشروع على كوني مشرعاً ومراقباً من الممكن أن يقترح ما يراه، ولمن يذهب إليه المقترح الحق بالقبول أو الرفض).

وتطاول الاتهامات أيضاً مديري عموم في الدولة، كما أكد الباحث غازي رحو، ورافق استكمال سحب الأموال استقالة وزير المالية بعد إعلانه أطول خطاب في تاريخ الاستقالات بالبلاد، مبيناً فيه مؤشرات انهيار الاقتصاد العراقي ومنجزاته كوزير في الوقت نفسه، مما أثار الرأي العام العراقي وانتقاد المتخصصين لخطابه الذي خلا من تشخيص ما يحدث من سحوبات لتلك الأموال عبر إحدى دوائره وتحت مسؤوليته.

فتحت هذه العملية ملفاً طويلاً لمظاهر الفساد في العراق، كما يقول النائب السابق مشعان الجبوري الذي كشف أن "عملية سرقة مليارين ونصف المليار دولار ما هي إلا حلقة من مسلسل السرقات التي سبقت هذه السرقة الكبيرة التي تمت خلال الفترة من سبتمبر (أيلول) 2020 حتى أغسطس 2021".

الجبوري يؤكد أن "الأمر يعود حقيقة إلى عام 2015، حيث بدأت عملية الاستيلاء على أموال التأمينات في دائرتي الضريبة والجمارك أثناء حكومة العبادي، وتقديرات القائمين على التحقيق الذي خرج في 250 صفحة تؤكد أن المبلغ المسروق هو خمسة عشر تريليون دينار عراقي (ما يعادل نحو عشرة مليارات دولار)" على حد قوله.

الكاظمي يحيل إلى القضاء

من جهته، قال رئيس الحكومة المنتهية ولايته مصطفى الكاظمي، إن "قضية الأموال المسحوبة من هيئة الضرائب في وزارة المالية تدعو إلى الوقوف عند المناخات التي ساعدت على استشراء الفساد في مفاصل تلك الهيئة، وشاركت في توفير غطاء الاعتداء على المال العام، وهي أمور تتجاوز عمر الحكومة الحالية، فقد سبق لحكومتي أن اكتشفت هذا الخرق بناءً على معطيات ومؤشرات تدلل عليه فسارعت إلى فتح تحقيقات والمضي قدماً بالإجراءات القانونية اللازمة بالتعاون مع القضاء، وقد تم تسليم جميع الأدلة والوثائق للمحكمة منذ أشهر".

ويضيف الكاظمي الذي لم يوجه الاتهام لجهة محددة "نؤكد أن هذه الحكومة مضت بالإجراءات القانونية المعمول بها من قبل الجهات المعنية في هيئة النزاهة والقضاء المتخصص، وقدمت كل الوثائق والأدلة والقرائن التي تسهم في كشف الحقيقة ومعرفة المعتدين على المال العام"، لكن هذا الخطاب الذي وجهه رئيس الحكومة ووجه بانتقاد شديد من وسائل الإعلام التي ظنت أنه سيكشف الجهات السياسية وراء أكبر جريمة اقتصادية مكشوفة في تاريخ العراق.

ماذا يمكن للسوداني فعله؟

يواجه رئيس الحكومة المنتخب الجديد محمد شياع السوداني هذا الملف وسط ضجة من الرأي العام الذي يدعو إلى القصاص للجناة واستعادة المال المنهوب، وهو الذي وضع قضية مكافحة الفساد ضمن أولويات مهماته ومشروعه الحكومي، ومجمل تصريحاته السابقة ستكون ضاغطة عليه وعلى عهده.

لكن الباحث مازن صاحب الشمري يرى أن "أية محاولة لتطبيق القانون على أحزاب المحاصصة تعني إزالة السوداني أو من يحاول التصدي لهذا الملف، لأن الفساد السياسي والمجتمعي نظام بنيوي عنوانه المحاصصة المحمية بالمال السياسي وسلاح الميليشيات من أجل ديمومة حال اللا دولة"، متسائلاً "هناك أكثر من عشرين ألف ملف فساد، إذا فتحت من سيحاكم من؟".

سعى كثير من الباحثين والناشطين لمعرفة الجهات الضالعة في هذه السرقة التي تؤشر كل المصادر إلى أن جهتين مسلحتين سهلتا إجراءاتها من دون ذكر هويتهما لعدم توافر وثائق مدونة تثبت ذلك.

يؤكد الخبراء الاقتصاديون أن مجمل الإيرادات العراقية للفترة التي تم إحصاؤها بين 2003- 2020 بلغت تريليون ومئة وتسعة مليارات دولار أميركي، في وقت بلغ مجموع النفقات لتلك الفترة 998 ملياراً و632 مليون دولار، أي إن هناك وفر في خزينة الدولة بلغ، وفق أحدث دراسة لرئيس لجنة الدراسات والإحصاء والمحاسبة في المنتدى العراقي للنخب والكفاءات حميد شكر، 110 مليارات و166 مليون دولار، وهو مبلغ يكفي لإعادة إعمار العراق من شماله حتى جنوبه، على حد زعمه، لكنه تبخر.

ويقول شكر إن العراق شهد ما يمكن وصفه باغتيال للمال العام من خلال التهرب من دفع الضرائب والرسوم الجمركية وديون الدولة وما تم من هدر وفساد في النفقات العامة، ويتهم وزارة المالية العراقية في عهد علي علاوي الذي استقال قبل أشهر بالوقوف وراء ذلك.