على رغم محاولات الحكومات العراقية المتعاقبة خلق مدن حقيقية منافسة لمكانة العاصمة العراقية بغداد في ملفات فرص العمل والخدمات والترفيه فإنها، وبحسب متابعين، "لم تحقق منجزاً يذكر في أغلب المدن العراقية، باستثناء ما يحصل في إقليم كردستان من تطور عمراني كبير خلال السنوات القليلة الماضية".
غياب مقومات الحياة
وأدى تراجع المستوى الخدماتي في أغلب مدن وسط العراق وجنوبه وافتقار غالبها إلى مقومات المدن الحقيقية، سواء من ناحية فرص العمل أو الترفيه أو الحريات العامة إلى موجة هجرة جديدة تجاه العاصمة بغداد، خصوصاً بعد الاستقرار الأمني النسبي الذي تعيشه منذ انتهاء الحرب على "داعش".
والهجرة الجديدة شملت شرائح الأغنياء والتجار الذين وجدوا في العاصمة مكاناً لممارسة حياتهم بحرية، بعيداً من المشكلات والأزمات والحملات ضد الحريات العامة التي يشهدها غالب المدن العراقية، فضلاً عن توجه الراغبين بالعمل من البسطاء إلى العاصمة للحصول على فرص عمل، غابت عن مدنهم التي كان للفساد دور كبير في عدم وجود مشاريع حقيقية، سواء من قبل القطاع العام أو الخاص، لتحريك الواقع الاقتصادي وامتصاص البطالة التي فاقمها اقتصار التوظيف في الوظائف العامة التي تخضع للمحسوبية في عمليات اختيار وبأعداد محدودة.
وتشهد العاصمة بغداد منذ عام 2019 تشييد مشاريع كبرى في السكن والسياحة والفندقة والمولات التجارية الكبيرة والمطاعم والمقاهي والأندية الاجتماعية، وتم افتتاح المئات من المدارس والجامعات الأهلية، باعتبار أن العاصمة كانت بحاجة إلى مزيد من العمالة والتوظيف بأسعار مخفضة، فتم اختيار عديد من المهاجرين من المدن الأخرى للقيام بها لكون أجورهم مخفضة قياساً بأجور سكان العاصمة.
الخدمات والبطالة
ويرى أستاذ الاقتصاد في الجامعة العراقية عبدالرحمن المشهداني أن سوء الخدمات في المحافظات وقلة فرص العمل دفعا بالهجرة إلى بغداد.
وقال المشهداني إن "بغداد تستقطب الكفاءات ورؤوس الأموال والمهاجرين، كما أن الهجرة نحو العاصمة يعود إلى جملة من الأسباب هي سوء الخدمات في المحافظات وشح المياه في المحافظات الجنوبية، مما أدى إلى هجرة الريف إلى محافظاتهم، ومن ثم إلى بغداد، لعدم توفر فرص الاستقطاب الجاذب للسكان في تلك المحافظات".
مقومات العيش
وأضاف المشهداني أن "الدولة العراقية عجزت عن خلق مدينة تحتوي على كل مقومات العيش من سكن وخدمات، كما هو الحال في بعض الدول، مما جعل التجار يتركزون في بغداد"، مبيناً أن "هذه الشريحة تتخذ من بغداد مركزاً لتجارتها، ومن ثم تنقلها إلى باقي المحافظات العراقية بدلاً من أن يكون الاستيراد مباشرة إلى محافظاتهم".
وأوضح المشهداني أنه بسبب عدم توفر الأطباء والمستشفيات الجيدة في المحافظات، يضطر سكان تلك المحافظات للتوجه إلى بغداد لأغراض العلاج، مشدداً على ضرورة بناء مدن جديدة على أسس حديثة تتضمن كامل الخدمات.
انتشار العشوائيات
وتابع أن أعداد القادمين إلى بغداد تضاعف منذ عام 2003، إذ كان المواطنون مقيدين بنظام 1957 الذي طبق في بغداد، وبعد عام 2003 تم إلغاء هذا الشرط وانتشرت العشوائيات، وثلث السكان جاء من المحافظات.
ونظام 1957 يقصد به إحصاء العام ذاته بالنسبة لسكان العاصمة، والذي حدده النظام العراقي السابق كأساس للبيع وشراء المنازل داخل العاصمة طوال تسعينيات القرن الماضي لوقف الهجرة من المحافظات العراقية إلى العاصمة.
ووفق سياسيين، باتت العشوائيات التي يعيش فيها أكثر من ثلاثة ملايين عراقي في العاصمة، مشكلة عراقية مستعصية، خلقتها جهات سياسية ودينية استفادت منها في الانتخابات المحلية والبرلمانية.
وعلى رغم حديث الحكومات العراقية المتعاقبة بعد سقوط نظام صدام حسين عن إيجاد حلول لها، فإن ما حصل على أرض الواقع هو تمددها من دون توقف، لتشمل مساحات واسعة من محيط أهم المدن العراقية لتحولها إلى قرى كبيرة غير صالحة للسكن، يختفي معها كثير من مظاهر الحضارة العالمية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تضاعف عدد السيارات
وأشار المشهداني إلى أن التضخم السكاني ولد زحمة سير في بغداد بسبب زيادة أعداد السيارات بشكل كبير من 650 ألف سيارة قبل عام 2003 إلى 6 مليون سيارة في بغداد، مما شكل ضغطاً على طرق العاصمة التي يعود إنشاء أغلبها إلى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، لافتاً إلى أن الخدمات نفسها التي أنشئت قبل عام 2003، تتلاءم مع تسعينيات القرن الماضي، ولا تلبي الحاجة الحالية، ومنها شبكة الصرف الصحي التي أصبحت متهالكة لكون عمرها الاقتراضي ينتهي في ثمانينيات القرن الماضي.
تجمعات سكنية
بدوره، يرى المتخصص في الشأن الاقتصادي باسم جميل أنطوان، أن العراق بحاجة إلى تجمعات سكنية خارج المدن تستوعب في كل مجمع أكثر من 100 ألف وحدة سكنية فيما أشار إلى أن "بغداد ستكون غير صالحة للعيش بعد عامين".
وقال أنطوان إن بغداد هاجر إليها أكثر من أربعة ملايين شخص خلال الأعوام القليلة الماضية، الأمر الذي لم يستوعبه التخطيط العمراني للعاصمة، مبيناً أن هذا الأمر دفع إلى تجزئة الوحدات السكنية الكبيرة وإنشاء منازل غير نظامية والتجاوز على المناطق الخضراء وبناء العشوائيات بشكل كبير.
وأضاف أنطوان أن هذا الأمر ولد ضغطاً على المنظومة الكهربائية نتيجة زيادة عدد الوحدات السكنية، لافتاً إلى أن نسبة المشكلات بين السكان زادات نتيجة الاحتكاك بينهم.
مدن خارج العاصمة
وشدد على ضرورة التفكير الجدي ببناء وحدات خارج العاصمة بمسافة تبعد بين 20 و30 كيلومتراً مثل مدينة "بسمايا" التي تستوعب 100 ألف وحدة سكنية عند مداخل بغداد، مبيناً أن هذا التوجه سيخفف الضغط على العاصمة لكونها قد تصبح غير صالحة للعيش خلال عامين أو ثلاثة في حال استمرار التضخم السكاني والتجاوزات.
واعتبر أنه من الضروري أن تتوفر في المجمعات السكنية كامل الخدمات مثل النقل وسبل العيش من متاجر ودوائر دولة ليكون لها استقلالية كاملة، داعياً إلى إنشاء مترو في بغداد وجسر معلق، وكذلك تفعيل النقل النهري للتقليل من زحمة السير.
ومجمع "بسمايا" الذي وقعت الحكومة العراقية عام 2012 عقده مع شركة "هانوا" الكورية الجنوبية يضم 100 ألف وحدة سكنية تتسع لـ500 ألف شخص، وهو أكبر مجمع سكني تم إنشاؤه في العراق لتخليص العاصمة من الزخم السكاني.
مجمعات خارج العاصمة
فيما قال المتحدث باسم وزارة التخطيط عبدالزهرة الهنداوي إن الحلول الحكومية تتمثل في إنشاء مجمعات سكنية متكاملة خارج مدينة بغداد، وإنشاء مدينة إدارية جديدة خارج العاصمة.
وقال الهنداوي إن "بغداد أصبحت من المدن الجاذبة للسكان لأسباب كثيرة منها وجود المراكز التجارية، بالتالي تعد مناسبة لتوفير فرص عمل للباحثين عن العمل، مبيناً أن المحافظات شهدت خلال الفترات الماضية حالة من الانكماش والكساد، بالتالي غابت فرص العمل، وهذا دفعهم للهجرة إلى بغداد".
9 ملايين نسمة
وبين الهنداوي أن بغداد باتت تمثل أكبر كتلة سكانية في العراق لوجود 9 ملايين نسمة تعيش فيها، وفي النهار ربما يتجاوز عدد الموجودين في بغداد 11 مليوناً بسبب القادمين إلى بغداد من المحافظات لأغراض العمل والعلاج والمراجعات، مما يستدعي خططاً بعيدة المدى.
وأوضح أن هناك خططاً حكومية لمعالجة السكن في وسط العاصمة تتمثل في إنشاء مشاريع على مستوى العاصمة والمحافظات تسمى المدن السكنية الجديدة على غرار مدينة "بسمايا"، تكون متكاملة وليست فقط للسكن، مبيناً أن المدن المقترح تشييدها تضم الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء ومدارس وطرق، وهي قادرة على امتصاص الزخم الحاصل في مراكز المدن ومنها العاصمة بغداد.
عاصمة إدارية جديدة
وتابع أن الخطط الحكومية تتركز على إنشاء عاصمة إدارية جديدة، وهناك مناطق عدة مختارة لإنشاء هذه المدينة، أبرزها المنطقة المقابلة لمدينة "بسمايا" على مساحة 50 كيلومتراً مربعاً، موضحاً أن فكرة المدينة الإدارية تتمثل في نقل كل المؤسسات الإدارية الممتدة من "نصب الشهيد" شرقاً إلى "نصب الجندي المجهول" غرباً، وخلق التنمية، مما يسهم في تخفيف الزخم الحاصل في مناطق قلب العاصمة، وتتحول المباني ومؤسسات الحكومة إلى مراكز ترفيهية ومناطق أخرى.
ويتجه العراق لتشييد عاصمة إدارية جديدة له بعد أن توصلت السلطات العراقية إلى قناعة تامة بضرورة الإسراع في هذه الخطوة، لتلافي التوسع السكاني الهائل داخل العاصمة، وبالمتمثل في مجموعات كبيرة من العشوائيات تهدد بانهيار قطاع الخدمات خلال سنوات قليلة.
وكانت بداية المشروع عبر دراسة شاملة تقدمت بها وزارة التخطيط العراقية في سبتمبر (أيلول) 2018 تقترح إنشاء مدينة إدارية جديدة للبلاد تنتقل إليها جميع مؤسسات الدولة ومقارها، بهدف تخفيف الضغط عن العاصمة التي تراجعت الخدمات فيها إلى مستويات خطرة، وأصبحت التجاوزات فيها، سواء سكنية أو تجارية، هي البديل عن واجهتها الحضارية المعروفة بها تاريخياً.
وتم اختيار مكان العاصمة المزمع إنشاؤها قرب مدينة "بسمايا" السكنية، والتي تعد أول مدينة سكنية حديثة من ناحية تقديم الخدمات بعد عام 2003 تقع على الطريق الرابط بين بغداد ومحافظة واسط، وتوجد على الجهة المقابلة لها منطقة المدائن التي تضم معالم وآثاراً مهمة أبرزها طاق كسرى وقبر الصحابي سلمان الفارسي.