لعلها المدينة الأشهر سياسياً وأقضيتها الستة التي تحيطها، التي لم تهدأ طيلة المئة عام التي تأسست خلالها الدولة العراقية عام 1921، بل منذ تأسيسها أواسط القرن الـ18، فهي الناصرية في الجنوب الأوسط بالعراق، المدينة والأقضية التي تفخر بأسباب بقائها ثائرة ضد الظلم وضد السلطات المتعاقبة، فلم تهدأ هذه المدينة يوماً ولم تخل من تظاهرة أو احتجاج أو منشور محرض وإن بدت ساكتة فهي تحضر لإطلاق حركة أو حزب سياسي.
ثلاثة أحزاب كبرى
فيها تأسست كل الحركات والأحزاب السياسية العراقية الكبرى التي انطلقت منها الخلايا الأولى للحزب الشيوعي العراقي عام 1934 على يد يوسف سلمان (فهد) وهذا اسمه الحركي الذي شكل أولى الخلايا للحزب الشيوعي العراقي، وأطلق أول حركة لليسار في البلاد حتى إعدامه على يد النظام الملكي الذي عد حركته تخريبية،
وفيها أنشئ أيضاً حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1950 بعد ثلاث سنوات من إعلانه في دمشق عام 1947 على يد الشاب فؤاد الركابي ابن مدينة الناصرية في تشكيل تنظيمات حزب البعث العربي، وأصغر وزير في العهد الجمهوري الأول عام 1958 الذي أعدم هو الآخر على يد رفاقه البعثيين في بعقوبة بتهم كيدية، والحزب الثالث الذي تأسس فيها هو حزب الدعوة الإسلامية عام 1958 الحاكم الفعلي الآن، على يد طالب الرفاعي دارس الحوزة النجفية الذي أسس حركة شيعية على غرار حركة الإخوان المسلمين في مصر واستجلب مفكراً وقائداً مقبولاً من البيت الشيعي النجفي لإطلاق حركته هو محمد باقر الصدر (الشهيد الأول) الذي أعدم عام 1980 عشية الثورة الإيرانية في موضوع ملتبس يطول شرحه وظل الرفاعي بعيداً من متناول سلطة البعثيين بهروبه ليعيش في القاهرة حتى اللحظة.
وشهدت تلك الحقبة احتراباً سياسياً لم يتوقف، انعكس سلباً على نسيج الناصرية وعلى تاريخها الوطني، كمدينة وجمهور، وهذه الظاهرة اللافتة التي أنتجت ثلاثة أحزاب كبرى في العراق وكانت فاعلة في قلب نظام الحكم الملكي وتحوله إلى جمهوري عام 1958، كلها خرجت من معطف مدينة واحدة هي الناصرية التي أنجبت الأحزاب الاشتراكية والقومية والدينية معاً في ظاهرة لم تدرس بعد بكل بواعثها ومحركاتها وتفاعلاتها ونتائجها أيضاً، لكن الثابت أن المدينة وأقضيتها الستة ما زالت معيناً لا ينضب في حراكها الشعبي واحتجاجها الأبدي وعدم قبولها المهادنة في أي وقت وفي ظل أي نظام.
الناصرية بداية النشوء
في التاريخ المترع بالحكايات العراقية التي ظلت مخفية يتداولها العارفون المتوارون عن أعين العسس ومراقبة أجهزة الأمن، يقص الكاتب الباحث جمال العتابي حكاية إنشاء الناصرية لـ"اندبندنت عربية"، يقول المؤرخ الشهير عبدالرزاق الحسني إن "الوالي مدحت باشا عقد صفقة سرية لولادة قيصرية لمدينة أراد لها أن تختلف كلياً عن المدن العراقية الأخرى، كانت الصفقة مع شيخ المشايخ ناصر السعدون أو من يسمى "ناصر الأشقر"، كبير عشائر المنتفق، وأوعز لمصمم بلجيكي يدعى جونس تلي لمحاكاة مدينة أوروبية بشوارع مستقيمة غير ملتوية وعريضة.
تتقاطع هندسياً في سرة الساحة التي ينتصب فيها الان تمثال الحبوبي في مركزها، يقول المؤرخ علي الشرقي في تاريخ عشائر المنتفق إن "بناء مدينة الناصرية كان حيلة ذكية لإطاحة إمارة آل سعدون في جيب الجنوب المهلك على رغم أن بناء المدينة كان في ظاهره وجه السعد لعشائر المنتفق، حيث السلمة الأولى في سلالم الرقي والترف، غير أن هذا الترف ضرب بإعصاره العتيد آخر ما تبقى من الإمارة السعدونية التي تفككت أواصرها وتخلت عشائرها عن تقاليد البداوة فتركوا الخيام والجمال ونزحوا أفواجاً نحو المدينة لينعموا بترف عمرانها ولعبة الدومينو على تخوت المقاهي طوال النهار والليل، ولا طاعة للشيخ والأمير بعد اليوم، وبذلك نجحت أولى فقرات الخطة العثمانية في الاستمالة وتفكيك الإمارة السعدونية".
مدينة بروح شارع
من يجول في الناصرية يكتشف كما يقول جمال العتابي أن قلبها شارع يقترن باسم الشاعر محمد سعيد الحبوبي الذي كان أحد قادة ثورة عام 1920، حين استراح في وسط المدينة بعد أن اتعبه قتال الشعيبة (بصرة) ضد القوات الإنجليزية المتوغلة في أقصى الجنوب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يصفها العتابي، "هي مدينة فاعلة في الحكي والإنصات وفي القص المنسوج في الاستماع، منسوجة من أساطير سومر المستوحاة من جذور المدينة، إنها مدينة الحكايات التي لا تنتهي، ونساجو الكلام، وأباطرة مفلسون على تخوت المقاهي، وأبناؤها يحلمون بشوارع نظيفة معبدة ومدارس ومستشفيات تليق بتاريخها".
يتابع، "الناصرية لا تزال تحمل كل ذاكرة الوجع الجنوبي، ولا فرق في رائحة المكان بين شارع الهوى وشارع الحبوبي فهما تسميتان لمكان واحد وقبالة نهر الفرات شجرة صفصاف مكثت تئن تحت وطاة السنين لزمن طويل وعاشت كأنما لتشهد هلى هجوم الأتراك والإنجليز في 1915".
السياسة والناس
شهدت الناصرية تموجات الحراك السياسي في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات على حد سواء من القرن الماضي، وفيها نمت البذرة الأولى للأحزاب السياسية العراقية في العهد الملكي التي تقاتلت كثيراً في العهد الجمهوري وأربكت مشهد الحياة السلسة والطبيعية في عموم البلاد.
والمفارقة في الناصرية المدينة وعلاقتها بمحيطها حيث يقطع الناصرية نهر الفرات الذي يأتي متعباً من أقصى غرب العراق، لكنه يمر واسعاً طافحاً بالمياه ويذهب نحو البصرة ويصب في الخليج لا يشرب منه أبناء الناصرية، والمفارقة أن المدينة كانت ترتوي من فرع صغير لنهر الغراف مياهه العذبة تأتي من سدة البدعة من نهر الغراف وهو فرع من دجلة، فتكتفي الناصرية بالتفرج على مائها في الفرات وهي حالة نادرة في مدن العالم لعدم وجود معامل تصفية للمياه.
سنوات الحصار خراب المعالم
من الصور المؤلمة في حياة أبناء الناصرية وذاكرتهم حدثت في تسعينيات القرن الماضي إذ أمر الحاكم العسكري (محافظ المدينة) بإزالة كثير من سمات شارع النهر المطل على المدينة ويذكر أبناؤها مشهد تقدم الجرافات بهديرها المرعب ليشدوا جذع الصفصافة الشاهدة على أحداث المدينة وتاريخها وهي بعمر 200 سنة، فقيدوها بأسلاك حديدية ثم سحبوها بدم بارد أو قتلت تحت أنظار العامة ممن لهم تاريخ عميق معها وأمام أعين دامعة وصرخات مكتومة من أجيال أبناء الناصرية، كانت عيونهم تدمع لوداع صفصافة اليمام (هكذا يسمونها)، "منذ ذلك التاريخ اختفى هديل الحمام وغناء النهر، وحلت أطوار الغناء الحزينة". هكذا يصف جمال العتابي المشهد.
أخطر ما يواجه الناصرية اليوم تعرض ذاكرتنا للاندثار فلم يبق غير تمثال الحبوبي الذي يشهد على أحداث دامية شهدتها الناصرية وهي تثور على حاكميها وترفض الفاسدين،
إرث يقود إلى الاحتجاج
يصف الكاتب حسن النصار في حديث خاص الحراك الذي تعيشه الناصرية قائلاً، "أضحت الناصرية معقلاً تاريخياً للاحتجاج في العراق، فهي تملك إرثاً سياسياً على مدى عقود عدة، إذ تعتبر جزءاً من المحرك الرئيس للتوجهات السياسية وتشكيل الأحزاب المختلفة بتوجهاتها، فضلاً عن وقوفها على مر التاريخ ضد الظلم والإهمال والفساد، تحركها بنى تحتية متهالكة وفقر كبير وانعدام للخدمات وغيرها من متطلبات الحياة الأساسية، مما يسهم في إثارة غضب أبنائها، فيواصلون الاحتجاجات التي خرجوا بها لتغيير الواقع السياسي والمجتمعي الذي تشهده البلاد في ظل حكومات نهبت خيرات العراق وحولته إلى بلد يتصدر قوائم الفقر والبطالة والفساد وسوء الخدمات".
ويضيف النصار، "ظل شباب الناصرية لعقود سابقة، تحديداً منذ حقبة التسعينيات وأعوام الحصار التي فرضت على البلاد (1990 - 2003) ينزحون من الريف إلى المدن يبحثون عن لقمة العيش وبناء مستقبلهم، حتى أضحت جميع المهن الشعبية والمتعبة من حصتهم، لا سيما في مجال الخدمات فكانت من نصيب شباب الشطرة وسوق الشيوخ والرفاعي والمدن المكتظة والأقضية والنواحي التابعة لمدينة الحبوبي. إنها ليست المدينة الغافية على كتف النهر كما كانوا يتخيلونها، بل هي جزء من صيرورة المجتمع البغدادي القاسية، فأبناؤها وضعوا بصماتهم في كل شبر. لذلك ظلت الناصرية فاعلة ومتحركة وموجودة في كل مشهد، وباتت حال الغضب النابعة منذ أعوام الغربة التسعينية هي من تحرك ببوصلتها إرهاصات الشباب، الأمر الذي تم استغلاله بشكل مكشوف من بعض القادة السياسيين لتحريكهم في أي وقت مستغلين هذا الانفعال التاريخي على الزمن وليكونوا في مقدمة المعارضين على كل شيء من دون أن يحصدوا يوماً شيئاً غير الموت والجوع ومزيد من الوجع".
ولساعة إعداد هذا التقرير تداهم القوات الأمنية من سمتهم المتورطين بالتحريض في أحداث الاحتجاجات الأخيرة التي طاولت شخصيات معروفة في المدينة، كما أن عشرات القتلى والجرحى سقطوا جراء استخدام الرصاص الحي.