حكاية الأهوار... حين تشرق الطبيعة المسالمة وتبهت الحرب

آخر تحديث 2023-02-21 00:00:00 - المصدر: اندبندنت عربية

كان الإنسان آخر المخلوقات التي وفدت إلى بيئة الأهوار في العراق القديم، بعد القصب والطيور والجاموس، وعاش يرتع فيها لا يسمع غير صوت خرير الماء الذي يمخر عبابه بمجدافه المصنوع من قصب الهور، ويشق طريقه بين أدغال القصب التي تخفي كثيراً من المخلوقات المائية والطيور والأسرار معاً.

إنها تحفة الطبيعة المميزة المليئة بالمخلوقات المتآلفة في بيئة متفردة، تحميها رماح القصب المتشابكة، وقد أودعت الطيور بيوضها في مواسم الدفء في قلب أعشاش البردي، ثم حلقت بعيداً نحو عوالم الحرية، مخلوقات لم يعرفها الإنسان من قبل، لا سيما تلك الطيور المهاجرة نحو بيئة الأهوار بألوانها وأحجامها المتباينة حين تعود من جديد في مواسم التزاوج.

قوم الأهوار

لم تنقطع تلك الرحلة الأزلية بين أناس الأهوار، وهم من صنف قبائل المعدان العربية الذين احترفوا العيش على منتجات الجاموس البري، ليمنحهم وجبات طازجة من الحليب ومشتقاته، ويحتمون بقصب البردي طعامهم الرئيس، بينما يعاينون كل حين مهرجان الأسماك من حولهم، التي تمدهم بغذاء مجاني طيلة العام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تلك الألفة الغريبة بين البشر والكائنات سادت قروناً في بيئة الأهوار، حتى عكر صفوها المتقاتلون في حرب شرسة دامت طيلة الثمانينيات من القرن الماضي، وحولوها إلى مسرح عمليات حربية، وأسقطوا فوقها ملايين القذائف، ولوثوها بمنتجات البارود وأنواع المبيدات التي قتلت ملايين المخلوقات، وحلت الوحشة والدمار بدل الألفة والوداعة والسكينة، وتغير واقع المنطقة كلياً، وتدنت الحياة فيها لتستحيل جحيماً، حين أدرك الجيشان المتقاتلان أن منفذ التسلل يأتي من هور الحويزة المشترك بين العراق وإيران، وامتلأت الشطوط بالجثث، وتحول أكبر مسطح مائي يعادل مساحة لبنان إلى ميدان حرب، وتعطلت حياة الآلاف من البشر الذين اعتادوا العيش بسلام بين ظهراني الأهوار وبيئته البعيدة نسبياً عن المدن.

مسرح عمليات

كل شيء تغير مع الحرب العراقية - الإيرانية في بداية ثمانينيات القرن الماضي، تحولت مناطق الأهوار إلى ساحة للقتل والاختراقات المتبادلة، وتسلل هذا الطرف وذاك حتى أضحت المنطقة مركز عمليات حربية شرسة، حتى أجبرت الحكومة العراقية (كما سوغت ذلك) على قرار تجفيف الأهوار لمنع التسلل من خلالها نحو الضفة الغربية من ساحل الأهوار الهش، وجندت الدولة كل خبراتها وجنودها وآلياتها في أوسع عملية تجفيف شهدتها البلاد بدعوى تحويلها إلى أرض زراعية، لكن الناس يدركون أن الهدف كان تأمين المدن المقابلة في العمارة والبصرة والناصرية من خطر تسلل قوات الحرس الثوري والجيش الإيراني بالقوارب المطاطية.

استمرت الوزارات العراقية خلال الثمانينيات في تجفيف الأهوار ومحو وجودها، مرتكبة أكبر جريمة بيئية في البلاد تحت مسوغ درء التسلل في الحرب، وحلت مشاهد من الترحيل القسري لما يقرب من 50 ألف مزارع من سكانها لم يعرفوا مصيرهم، أو يتعودوا على حياة المدن، أو حتى على هامشها، وكأنهم يعيشون عقاباً جماعياً.

كل شيء تغير مع الحرب العراقية - الإيرانية وتحولت مناطق الأهوار إلى ساحة للقتل (مواقع التواصل)

 

كما لم يسلم الجاموس الذي نفق أكثره بعد أن حرم من المياه التي اعتاد عليها، يقول الباحث أحمد مزهر عليوي، من ذي قار "تعد أهوار جنوب العراق ملاذاً مهماً لمربي الجاموس، فهي تشكل منطقة واسعة للمراعي الخضراء، حيث تتراوح أعداد الجاموس في الأهوار الوسطى (قبالة الناصرية) وحدها 27000 ألف رأس بحسب منظمة طبيعة العراق الدولية المهتمة ببيئة الأهوار، وتشكل قرى وتجمعات سكانية في قلب الأهوار الوسطى علامة فارقة في مجال تربية الجاموس الذي يعد صنفه العراقي من الفصائل النادرة في العالم، لكن الجفاف الذي ظلت تعانيه بيئة الأهوار كان باعثاً للقلق والهجرة المستمرة نحو مناطق وبيئات أخرى بحثاً عن مياه مناسبة لتربية الماشية".

على رغم محاولات إعادة الحياة إلى بيئة الأهوار بعد عام 2003، لكن انحسار مياه دجلة والفرات وروافدهما جراء بناء السدود التركية والإيرانية، وتحويل مصب نهر الكارون عنها، وقلة الأمطار، وسوء الإدارة المائية في البلاد، والتعديات المحلية على مجرى الأنهر، تسببت مجتمعة بنقص مناسيب تدفق المياه التي قلت كثيراً عن معدلها البالغ متراً ونصف المتر لتصل إلى نصف متر فقط.

وما زاد الأمر تعقيداً هو جفاف الأنهر المغذية للأهوار، مما تسبب في حرمان تلك البيئة من خاصية دخول المياه إليها وخروجها منها، وقد كان ذلك نظاماً بيئياً فريداً وفر خلال قرون خلت خاصية الكفاءة البيئية للعيش فيها بتزويدها بالأوكسجين ومداورة المياه وتقليل الملوحة المهددة للحياة.

الرحيل المؤلم

ضاقت سبل العيش بسكان الأهوار واضطرتهم للرحيل صوب المدن المتاخمة في ثلاث محافظات هي ذي قار والبصرة وميسان، وعلى رغم تمسكهم ببيئتهم وصبرهم خلال عقود الحرب والجفاف والتوحش، لكنهم لم يتمكنوا من المواصلة على هذا النحو، بعد أن قطعت المياه بشكل مريع، لكن الأمل عاد من جديد بعد قرار حفر الأهوار، وهو مشروع يئس كثيرون من تحقيقه في يوم ما.

جاسم الأسدي، متخصص في البيئة العراقية وأحد أبناء الجنوب الذين راهنوا على إعادة هذه الأهوار إلى الحياة، ونذر نفسه للعيش هناك حتى نجح خلال 20 سنة في إعادة ما يقرب من ثمانين في المئة منها إلى طبيعتها الأولى، لكن كانت ثمة عيون وآذان عناصر الميليشيات المترصدة له ولزملائه، التي لا ترغب بنجاح ذلك المشروع العراقي لأنه يستجلب الناس إلى المنطقة ويحيي السياحة فيها، فعملت على اختطافه وتعذيبه وسعت للتخلص منه لولا عشيرته التي خلصته من أيادي خاطفيه ليذهب من جديد إلى الهور ويقول "عذبت لثنيي عن الاستمرار في العمل من أجل الأهوار العراقية، وأنا أعمل مع أبناء المنطقة ومربي الجاموس من أجل وطني، والمجموعة الخاطفة تدار من خارج البلاد".

وشكا الأسد في اتصال مع "اندبندنت عربية" الظروف القاسية التي تعرض لها خلال 15 يوماً هي مدة اختطافه، فضلاً عن الاستحواذ على هاتفه الخاص وجهاز الكمبيوتر الذي يحتوي على أبحاثه.

لم يكن مشروع إعادة بيئة الأهوار هيناً، فما زالت سلسلة من التحديات تواجه تلك المهمة (مواقع التواصل)

 

ولا يمكن التطرق لبيئة الأهوار من دون إدراك أن المدن السومرية الخمس أور وأريدو وسومر والوركاء وأوما، قبل خمسة آلاف عام كانت هبة الأهوار التي أمدتها بسبل الحياة ومكنتها من العيش والإبداع والنمو.

يقول الباحث في شؤون التراث الثقافي العراقي أمير دوشي لـ"اندبندنت عربية"، "عند التحدث عن بيئة الأهوار لا بد أن نأخذ بالاعتبار حقيقتين مهمتين، الأولى تاريخية وهي أن الأهوار كانت ملجأ للعراقيين وقت المحن، فعندما غزا الآشوريون الممالك الجنوبية في سومر وبابل اتخذ السومريون الأهوار ملجاً للاحتماء، وكانت الأهوار ملجأ للاحتماء من بطش السلطات المتعاقبة على العراق، أما الحقيقة الثانية فهي جغرافية وتتلخص في الشواهد المادية المتوفرة في الأهوار، فقد طمرت كثير من المدن الأهوارية، وخلال انحسار المياه ظهرت مدينة ميسان التاريخية أثناء التجفيف في منتصف الثمانينيات، كما ظهر كثير من المواقع الأثرية بحدود 48 موقعاً، وبعد 2003 عملت الحكومة العراقية على تنظيم مشروع التنقيب في تلك المواقع، واستخرجت كثيراً من القطع الأثرية كما حدث في أهوار الجبايش والغركة البغدادية وغيرها، حيث قدمت معلومات وحقائق مهمة لم نكن نعرفها، وصورة من التاريخ غير المدون للعراق القديم".

وعن الصلات التي تجمع سكان المواقع الثلاثة الأهوارية التي يتوزع فيها سكان تلك المواقع، يقول دوشي "هناك تساؤلات جدية حول سكان هذه  المناطق، هل هم نازحون إليها أم سكانها الأصليون؟ فقد أجريت كثير من التحليلات الجينية لأفراد أحياء من بيئة الأهوار، وقورنت برفات قديم من المقابر السومرية، وكانت النتائج مدهشة علمياً، إذ أثبتت التحليلات في إحدى الجامعات الأميركية نسبة السومريين جينياً إلى العراق، وهم أجداد بناة الحضارة الأولى للبشرية، وهناك موقع يدعى (أبو طبيرة) يبعد ثمانية كيلومترات جنوب الناصرية نقب فيه العالم الإيطالي فرانكو دي غستينوا منذ 2010، ووجد صلة بين الأهوار والآثار الموجودة، وتجسدت هذه الصلة عندما اكتشف كميات من العظام وحصران القصب على صلة بالمنتجات الأهوارية القديمة، كما أن هناك آصرة بين هذا الموقع ومدينة أور التاريخية، الأمر الذي يكشف التنوع الثقافي والجغرافي للمنطقة".

تحديات إعادة الأهوار

لم يكن مشروع إعادة بيئة الأهوار هيناً، فما زالت سلسلة من التحديات تواجه تلك المهمة، يقول دوشي "تعتمد المهمة بالدرجة الأساس على الوضع الأمني، فحين يكون مستقراً وعلاقات العراق الدولية ناجحة يمكن إحداث إطلاقات مائية كافية بشكل ينعش الأهوار، سيما وأن السكان بدأوا بالعودة إليها وبلغوا حالياً 55 ألف مواطن، بعد أن كانوا خمسة آلاف قبل 2003".

ويضيف "هناك كثير من المشاريع المطورة للأهوار مثل مشروع (جنة عدن) الذي تقوم به العالمة ميرفل، حيث وصلت بعض المعدات إلى الجبايش، غير أن حادثة اختطاف جاسم الأسدي عرقلت المشروع".

وتعليقاً على نشاط الفرق الأثرية الأجنبية في ذي قار (الجبايش) دون غيرها، يقول "وصلت الفرق الأجنبية إلى 10 فرق متخصصة بسبب التعاون المحلي معها، فضلاً عن دعوات وزير الثقافة السابق عبد الراحل الأمير الحمداني، الذي وفر لها مستلزمات بيئة العمل الآمنة، وبذل المتحف البريطاني جهداً كبيراً في تدريب الأثريين العراقيين عبر دورات بيئية".

تظل الأهوار تكابد محنة الوجود، تقوى حين تكون الدولة قوية، وتستقر حين تحل الهدنة (مواقع التواصل)

 

ترى الباحثة شذى القيسي أن أهم التحديات تكمن في التغيرات المناخية بالأهوار، موضحة "من المفترض تكاتف جهد الدولة مجتمعة وليس وزارة واحدة لتوفير المستلزمات التي تساعد على ديمومة هذه البقعة وتحويلها إلى منطقة جاذبة للكائنات المائية والبرية من جديد، فالجاموس تعرض للإبادة جراء الجفاف، ونفقت أعداد كبيرة منه، كما تسببت التغيرات المناخية في قلة هجرات الطيور التي تأتي من أوروبا، والغريب أنه منذ عام 2016 أضيفت أهوار الجبايش إلى قائمة التراث العالمي، لكننا لم نلمس أي اهتمام رسمي من الحكومات المتعاقبة بهذه المنطقة ذات الطبيعة الحساسة، ما عدا تحرك العلماء العراقيين والمتخصصين في إدارة المياه والبيئة، وبجهود فردية لإعادة الحياة إلى هذه البيئة، بينما لم تتحرك الحكومات بتوفير الالتزامات التي فرضتها اليونسكو".

أما المتخصص في شؤون الأهوار أحمد صالح فيرى أنه "من الناحية البيئية والجيولوجية يمكن إعادة المنطقة إلى طبيعتها الأولى بشكل شبه كامل يصل إلى أكثر من 80 في المئة، ما عدا بعض الأماكن التي تحولت إلى قرى ومزارع كبيرة، لكن العائق الوحيد هو التغيير المناخي وقلة الواردات المائية، وحتى ذلك من الممكن جداً تحقيقه لو اتجه العراق إلى إنشاء سد في البصرة يحد من هدر المياه".

تظل الأهوار تكابد محنة الوجود، تقوى حين تكون الدولة قوية، وتستقر حين تحل الهدنة، وحتى مساحتها تقصر وتضيق وتتسع تبعاً لذلك، فلا يوجد رقم دقيق وموحد للمساحة، وعلى سبيل المثال فإن هور الحويزة يتعدى 2000 كيلومتر مربع، يمتلك منه العراق أكثر من 1400 كيلومتر بمعدل مساحة الثلثين، في حين تمتلك إيران حالياً من ربع إلى ثلث هور الحويزة، وهو قابل للتقلص والتمدد تبعاً للسنة إذا كانت مطرية من عدمه، بالتالي فالحدود غير ثابتة، والأراضي الرطبة القريبة من المناطق الوسطى المغمورة بالمياه شاسعة جداً، لكنها تتقلص نتيجة الجفاف وتتمدد في السنة الفيضية.

ثمة بعد آخر في حياة الأهوار هو البعد الميثولوجي، الذي يقول عنه الباحث البيئي أحمد صالح "تعد بيئة الأهوار من أهم البيئات المنتجة لقصص الخرافة الشعبية وما إلى ذلك، ومنها حكايات (تل حفيض) وبعض القصص التي تدور حول الارتباط بالأكوان الأخرى، وهذا ما يجعل ابن الهور منفتحاً على تقبل الحكايات حتى وإن كانت خيالية، لأنه يعيش في بيئة تتوقع الغريب والمدهش دائماً".