تأثر "معهد الدراسات الموسيقية" كغيره من مؤسسات الدولة بالظروف العصيبة التي مر بها العراق ابتداء من الحصار الاقتصادي وانتهاء بالغزو الأميركي عام 2003.
تأسس المعهد في بغداد عام 1970 وتفرد بتعليم الموسيقى الرافدينية والمقام العراقي والموسيقى التراثية، وتخرج فيه أشهر الفنانين العراقيين بينهم كاظم الساهر ونصير شمة وقارئة المقام فريدة محمد علي وأستاذ المقام وقارئه حسين الأعظمي وغيرهم كثيرون درسوا على أيدي أساتذة أكفاء مثل منير بشير وروحي الخماش وعباس جميل وغانم حداد، تركوا لنا بصمة باتت جزءاً من التاريخ الفني للعراق.
البداية
يقول الفنان العراقي حسين الأعظمي عن فكرة تأسيس "معهد الدراسات الموسيقية" الذي أطلق عليه آنذاك اسم "معهد الدراسات النغمية"، "في حفل اعتزال لمطرب المقام العراقي الأول الفنان محمد القبانجي الذي أقامته وزارة الثقافة والإعلام في بغداد في 28 مايو (أيار) 1969 ونقله تلفزيون العراق مباشرة آنذاك وحضره أول وزير للثقافة والإعلام بعد ثورة 1968 عبدالله سلوم السامرائي".
يضيف، حفلت الأمسية بغناء المقامات العراقية وبأصوات مجموعة من مغني المقام احتفاء وتكريماً لشيخ المقام محمد القبانجي. كان من بينهم يوسف عمر في مقام "الجمـَّال" ومجيد رشيد الحيالي في مقام "الأوج" وعبدالرحمن خضر في مقام "النهاوند" وعبدالهادي البياتي في مقام "البنجكاه" وحمزة السعداوي في مقام "الدشت" ويونس يوسف الأعظمي في مقام "الأوج" والحاج هاشم الرجب في مقام "البيات" والمطرب الكردي علي مردان في أحد المقامات العراقية وعبدالجبار العباسي في مقام "الجمـَّال". ثم اختتم الحفل محمد القبانجي في مقام "الأورفة" بقصيدة مطلعها
ليلُنا يا كـــــــــــــــرامُ ليــــلٌ سعــــــيدُ زَانهُ بالـــــــــجمالِ ربٌ مجـــــــــــــــيدُ
واقترح في ختام الأمسية على الوزير تأسيس مدرسة أو معهد لتدريس فن المقام العراقي وتعليم العزف على آلتي الجالغي البغدادي و’السنطور والجوزة‘، خشية على المقامات العراقية وهاتين الآلتين من الانحسار أو الضياع والاندثار.
يضيف الأعظمي تأسس "معهد الدراسات النغمية العراقي" العام التالي بقرار من مجلس قيادة الثورة وكان العام الدراسي الأول للمعهد في 1970. وبعد مرور أربع سنوات تقريباً على التأسيس، تحديداً في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 1974 زار القبانجي المعهد للاطلاع على مواهب الطلاب ورؤية حصيلة هذه الأعوام من الدراسة وآفاق الأمل من هذا المعهد الفتي آنذاك. وخلال الزيارة استمع إلى غناء أربعة من الطلاب آنذاك وكانوا حسين الوردي وجودت عبدالستار وصلاح عبدالغفور وحسين الأعظمي.
عن أهم مدرسي المعهد خلال تلك الفترة قال الأعظمي "كانوا نخبة من الأساتذة في الموسيقى بينهم الراحل شعوبي إبراهيم. وكان أستاذ العزف على آلة الجوزة مع حسن علي النقيب، وأيضاً جميل جرجيس ومنذر جميل حافظ وعبدالرزاق العزاوي وصبحي أنور رشيد وجلال الحنفي وروحي الخماش وغيرهم كثر، خصوصاً في دراسة آلات العود والكمان والقانون والناي، فضلاً عن آلتي الجوزة والسنطور".
أوضح، "كان العصر الذهبي في سبعينيات القرن الـ20 حتى ثمانينياته وكان قبلة لكل الفنانين العراقيين الذي كثفوا وجودهم وتواصلهم مع المعهد للاطلاع والتدريس فيه".
أساتذة من الشرق والغرب
نتيجة للنمو الاقتصادي الذي تمتع به العراق خلال عقد السبعينيات بعد قرار تأميم شركات النفط الوطنية في 1972 الذي أسهم في دعم الدولة المباشر لكل مرافقها العلمية والاقتصادية والاجتماعية والفنية، لم يكتفِ المعهد بأساتذته العراقيين، بل رغب في تعزيز التجربة والاستعانة بتجارب الآخرين ووجه بتدشين "دائرة الفنون الموسيقية" وشغل منصب مديرها العام آنذاك الموسيقار الراحل منير بشير.
استقدم بشير أساتذة في الموسيقى والغناء من بلدان عربية وغرب آسيوية وأجانب تشاركوا مع نظرائهم العراقيين في التدريس. يخبرنا الأعظمي، "قدم من تونس صلاح المانع في التدريس على الناي والنوري الرباعي في تدريس القانون والصولفيج والإملاء الموسيقي، أما محمد خماخم، فكان يدرسنا النظريات الموسيقية مع دروس أخرى".
يذكر أن "المعهد استقدم أيضاً من طاجكستان إلماز عبدالله ايف لتدريس آلة السنطور ومحمودوف آلة الجوزة، الأساسيتين لفرقة الجالغي البغدادي، وقدم من المجر سيناتشي لآلة السنطور. وكان عازف آلة السنطور محدود الإمكانية في متابعة المطرب المقامي في تجواله بين الأنغام والسلالم الموسيقية عندما يشرع في غناء أحد المقامات والأجناس والسلالم الموسيقية، سواء في العزف المنفرد أو في مرافقة مغني المقامات العراقية".
يتابع، "مرت فرقة الجالغي البغدادي (الجوزة والسنطور) بنقلة نوعية في إمكاناتها الآلية وتطور طرق العزف عليهما. بعد أن كان العازف يحرك الدامات التي تتكئ عليها أوتار السنطور، أضيف عدد أوتار الآلة ونظمت تنظيماً جديداً، وبعد تحديثها تحرر العازف في التجول والتنقل بين الأنغام".
يضيف، "بالنسبة إلى آلة الجوزة، كان الأمر مشابهاً تماماً لما حدث لآلة السنطور في تطورها الجديد، بعدما كان العازف التقليدي لآلة الجوزة يشد أوتارها بالخيوط ويحركها إلى الأعلى أو الأسفل ليصل إلى الطبقة الموسيقية التي يريدها خلال أدائه ويبقى أسير طبقة واحدة في كل عزف سواء المنفرد منه أو لدى مرافقة مغني المقام، ففي هذا الأمر إجحاف كبير لإمكانية الآلة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مؤسس بيت العود العربي نصير شمة يرى أن "معهد الدراسات الموسيقية" من أهم المعاهد في الشرق الأوسط والوحيد من نوعه بالمنطقة، فهو لا يشبه معاهد أو أكاديميات الفنون الجميلة، إذ يتسم بالدراسات المتخصصة لتخريج عازفين وفنانين على مستوى عال وعلى دراية ومعرفة بعلوم موسيقى عراقية صرفة وعميقة وتاريخية وعربية، لذلك فإن إلمام الطالب لستة أعوام متواصلة في دراسة المقامات العراقية في حد ذاته أمر يعد نادراً وغير موجود سوى في هذا المعهد. من هنا تبرز أهميته وضرورة إعادة نشاطه في حال أردنا رؤية فنانين حقيقيين ومهمين شأنهم شأن من تخرجوا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي".
ويقترح مؤسس بيت العود أن تتضمن خطة التطوير تبني وزارة الثقافة العراقية المتخصصة الأمر، ويقول "نحن على استعداد لتطوير المناهج للمساعدة وتقديم الدعم بلا مقابل في هذا المعهد الذي تعلمنا وتربينا فيه وكانت لدينا فرصة وشرف أننا شاهدنا وعاصرنا أهم الأسماء سواء التي سبقتنا أو رافقت جيلنا أو علمتنا".
تراجع وضع المعهد
فيما يذكر الموسيقار علاء مجيد الذي تخرج وعمل معيداً في المعهد ومعاوناً للعميد لمدة 17 عاماً أن من أهم الأساتذة الذين اعتلوا منصة التدريس الفنان الراحل حميد البصري وشهرزاد وسلوى شاميليان وعبدالوهاب بلال". أضاف، "أما من رافقني في مرحلة دراساتي، فأذكر منهم عبدالرحيم بنيان وسالم عبدالكريم وصفوت محمد علي والراحل صلاح عبدالغفور وصلاح الخطيب وحسين الأعظمي ومحمد حسين كمر".
بسؤاله عن توصيف الموقف الراهن في المعهد، يقول، "بسبب ظروف البلاد الصعبة تراجع وضع المعهد خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة ونحاول أن ينهض من جديد كمؤسسة ترعى الثقافة والإبداع والتراث الموسيقي العراقي".
تقديم وتسويق مبهر ومشوق
وعن مدى تأثر شباب الجيل الجديد بالتراث العراقي، علق مجيد، "عندما يستمع هذا الجيل إلى التراث العراقي بأصوات جميلة وموسيقى متقنة والآلات ومظهر جميل حتماً سيرغب في الاتجاه إليه، ولدينا تجربتان أفخر بقيادتي لهما، أي ’الفرقة الوطنية للتراث الموسيقي العراقي‘ وتتبنى التراث العراقي موسيقى وغناء، والأخيرة ’فرقة سومريات‘ اللتين تتبنيان التراث الموسيقي وتقدمانه بطريقة رائعة".
يتابع، "الموسيقى مثل أي سلعة بحاجة إلى تقديم وتسويق مبهر ومشوق، وباستطاعة موسيقانا الجميلة وأصوات فنانينا المؤثرة، إضافة إلى تقنيات العرض الحديثة أن تقنع بل تبهر شباب الجيل الجديد وجميع الجمهور بفاعيلة ما نقدمه".
مبنى معهد الموسيقى كان بيتاً لأول رئيس حكومة عراقي عبدالرحمن النقيب (اندبندنت عربية – محمود رؤوف)
مختبر للمبدعين
في السياق يذكر عازف الناي وليد الجابري أن موقع المعهد كان بمنطقة الوزيرية في ثمانينيات القرن الماضي وانتقل الى منطقة السنك في نهاياته حيث المبنى التراثي وكانت الدراسة فيه تستمر لستة أعوام ولكن في ما بعد أصبحت خمس سنوات، وبدأ المعهد بتدريس الآلات الشرقية فقط ولكن أخيراً دخلت نظيرتها الغربية. وإلى المعهد يرجع الفضل في تخريج معظم موسيقيينا المعروفين الان، فعلاً كان مختبراً للمبدعين".
الواقع والمعاناة
وعن الواقع الحالي يقول مدير المعهد أحمد سليم غني، "تسلمت إدارة المعهد قبل بدء العام الدراسي بفترة قصيرة، كنت متألماً لما وصل إليه الأمر بسبب قلة المخصصات المالية وعدم الاهتمام به وتأثر المبنى بالوضع العام الذي ساد البلاد خلال المرحلة المنصرمة".
يضيف، "الإهمال شمل كل مرافق المبنى من الغرف إلى الحدائق والأجهزة الصوتية واستغلت الأراضي المحيطة بالمعهد والتابعة له بصورة عشوائية من قبل جهات غير رسمية، فضلاً عن قلة أعداد الطلبة المتقدمين للدراسة".
ويردف، "عملنا بإمكانات متواضعة على تنظيم المكان من الداخل والخارج وإعادة تأهيله من جهة، ومن أخرى تابعنا تدريب وقيادة الفرقة الموسيقية بواسطة دروس النشاط الجماعي، الأمر الذي أسهم في التزام الطلاب بالحضور، وباشرنا السنة الدراسية بشكل جيد، وشاركنا في حفلات ونشاطات عدة وفعلنا صفحة المعهد ونعمل على الترويج له بشكل أكبر".
وختم غني، "لا تكمن معاناتنا في حاجة الطلبة إلى الآلات الموسيقية والمستلزمات الدراسية بسبب قلة وجودها في المعهد فحسب، بل نطمح إلى إعادة إعمار المرفق الأثري والحضاري الذي مضى على تأسيسه أكثر من 87 سنة".
رمز التحضر والتمدن
في السياق يقول مدير عام دائرة الفنون الموسيقية عماد جاسم، "تأسس المعهد منذ أكثر من خمسين عاماً، أي في مطلع العقد السابع من القرن الماضي وتلخصت أسباب تأسيسه في المحافظة على الموروث العراقي والتركيز على تخصصات الآلات الموسيقية التراثية والفلكلورية التي تعود أصولها للعصور السومرية مثل آلة الجوزة والقانون والعود والسنطور. وأعتبره من أيقونات التحضر والتمدن في البلاد".
وأشار الأكاديمي الذي درس في المعهد لأكثر من 10 أعوام إلى أن مسؤولي المعهد يعدون خطة متكاملة للاهتمام به بعد سنوات طاوله خلالها الإهمال على إثر الظروف التي مر بها العراق وتسببت في المخاوف والهواجس لبعض الطلبة وأهاليهم حين يحملون آلاتهم الموسيقية وسط شارع الرشيد، وكذلك قلة التخصيصات المالية التي يعانيها المعهد بشكل جدي".
إعادة تاهيل
يضيف، "سعياً إلى النهوض بالمعهد وبعد مناشدات عدة لجهات حكومية وأهلية ومنظمات المجتمع المدني بادرت مؤسسة ’المدى‘ بدعم من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID (برنامج تعافي) بمشروع لإعادة تأهيل المبنى وتجهيز مستلزماته وجلب الآلات الموسيقية وتهيئة القاعات"، وتابع، "نخطط الآن لإعادة تاسيس فرق موسيقية من الطلبة والأساتذة ويشارك حالياً طلبة من المعهد في نشاطات عربية وحقق بعضهم فوزاً بها".
يذكر جاسم أن "المعهد يضم 85 طالباً من مختلف التخصصات ويمنح الدبلوم بواقع خمس سنوات دراسية بعد الثالث المتوسط، ورفعنا مقترحاً لاستحداث الدوام المسائي لمنح الفرصة للموهوبين من الأعمار التي تتجاوز الـ17 والـ18 والسماح لهم بدخول هذا المعهد".
ويقول، "يعد معهد الموسيقى أحد ملامح الجمال وكياناً عراقياً رائعاً لما يضمه من أصوات نسائية بعدما عانى سابقاً قلة العنصر النسوي بينما الآن فالصفوف زاخرة بالعازفات من الشابات والأصوات النسوية".
يشار إلى أن تاريخ تأسيس المبنى التراثي للمعهد في شارع الرشيد يعود لعام 1936 على ضفة دجلة من جانب الرصافة، ويعاني اليوم إهمالاً كبيراً بسبب تداعي جدرانه القديمة ولم يجر تجديد قاعاته أو توفير الآلات والمعدات والأجهزة الحديثة واللازمة لتدريب طلابه.
والمبنى في ما سبق كان بيتاً لأول رئيس حكومة عراقي عبدالرحمن النقيب ويضم في ثناياه مجموعة من قاعات إلقاء المحاضرات وقاعات فرعية أخرى مثل ورشة تصليح الآلات التي بدت خالية من أي آلات موسيقية أو أدوات تصليح واستوديو التسجيل الصوتي.