أحدث انقلاب الـ14 من يوليو (تموز) 1958 في العراق، دوياً هائلاً في عمق المجتمع العراقي، ما زالت أجراسه ترن في رؤوس العراقيين المنقسمين حول توصيفها "ثورة" أم "انقلاباً"؟ وذلك تبعاً لمرجعية كل شخص ومناطقيته ومذهبه وانتمائه الطبقي، ومرجعيته الفكرية، ومدى الضرر أو الانتفاع جراء أحداثها اللاحقة.
حكم العسكر
وعلى رغم أن هذا الحدث التاريخي الذي قلب حياة الناس في بلاد الرافدين رأساً على عقب، إذ استلمت مقادير البلاد للمرة الأولى فصائل الحركة الوطنية، لكن الصراع الذي نشب سريعاً بين الأحزاب والقوى السياسية المتحالفة في "جبهة الاتحاد الوطني" التي كانت وراء الإعداد لهذا الانقلاب / الثورة، تسبب في أزمة طويلة عرقلت تطور العراق الاقتصادي والاجتماعي، وتسببت بتصدع وحدة المجتمع، كما يرجح الباحث ليث الزبيدي في بحثه عن "ثورة 14 يوليو 1958 في العراق"، وذلك جراء الخلاف على أسلوب ممارسة السلطة وخيارات السياسة التي تباينت بين مختلف القوى التي اشتركت بالثورة أو ناهضتها، لا سيما بين العسكريين أنفسهم الذين قادوا الانقلاب، بما رافقه من شك وريبة حول الدوافع والمحركين الفعليين، وتباين رؤى "الضباط الأحرار" الذين قادوا الانقلاب الدموي ضد رجالات الحكم الملكي.
اختلاف الرؤى
المجموعة الباحثة التي اشتركت معنا في "اندبندنت عربية" للوقوف على رؤى "الضباط الأحرار"، اختلفت هي الأخرى، عند مناقشة دور الأحزاب والعشائر في الصراع على السلطة، وإدارة الحكم الذي بات بيد الجيش، المختلف في مشاربه الفكرية والسياسية، والانتماءات العشائرية حتى الطائفية، مما قاد البلاد إلى "العصر الذهبي للانقلابات"، وترقب "البيان رقم واحد"، بين حين وآخر، مما أرهق مسيرة الشعب ومسار تطوره.
وعلى رغم أن الزعيم عبدالكريم قاسم مشهود له بكونه غير طائفي، إذ ولد لأب سني وأم شيعية، وكان يسكن في أحد أقدم أحياء بغداد الشعبية القديمة، حي "الفضل"، مشهود له بالنزاهة والوطنية والشعبوية المفرطة، وكونه عسكرياً متخرجاً من "سانت هيرس" البريطانية، مدرك لأولويات المجتمع، لكنه رزح تحت أعباء مقتل العائلة المالكة في بداية عهده.
وورث دولة تعاني الفوضى السياسية في الحقبة الملكية وهيمنة الإنجليز على مقراراتها السياسية والثقافية، فأراد أن يحصد إصلاحات سريعة، لتحسين وضع القوى الشعبية، وهو هدف الثورة ومادتها، لكنه أبى تسليحها، على رغم مطالبات الاحزاب اليسارية التي دعته مراراً إلى امتلاك السلاح بدعوى حماية الثورة ومكاسبها، لكنه أصر على حصر السلاح بيد الحكومة، صاحبة القرار في الحرب والسلام.
ارتياب عشائري
لكن العشائر ذات النزعة الاقطاعية كانت تنظر إلى ثورة يوليو بريبة وعدم ثقة بقراراتها التي ناصرت الفلاحين والعمال معاً، واتضح ذلك بعيد إصدار "قانون الاصلاح الزراعي" الذي سحب الأراضي الزراعية من أيادي الإقطاعين ووزعها على الفلاحين، في خطوة عدت جريئة، صححت قرارات الوالي العثماني مدحت باشا قبل 100 عام، التي أبرزت ظاهرة الاقطاع ومخلفاته، فاصطف آلاف المناوئين ضد الزعيم عبدالكريم قاسم، الذي كان يتولى إدارة الدولة نيابة عن "الضباط الأحرار"، ويدير القوات المسلحة صاحبة القوة الضاربة في الدولة التي تملك السلاح والرجال. أما الأحزاب العراقية التي تأسست سرياً منذ أول حزب يساري هو الشيوعي العراقي في مارس (آذار) عام 1934 بزعامة يوسف سلمان (فهد)، فكان دورها تحريضياً.
شرعية تأسيس الأحزاب
ومع إصدار الوصي على عرش العراق، الأمير عبدالإله، في عام 1945، بيان السماح بتـأليف الأحزاب والجمعيات السياسية بهدف إحياء الحياة الديمقراطية في البلاد، جراء الظروف التي سادت العالم بعيد الحرب العالمية الثانية، وانتشار المبادئ الديمقراطية في العالم، شجع ذلك ظهور الطبقة العاملة في العراق، كقوة في الشارع تديرها النقابات المختلفة، فانقسمت الأحزاب والنقابات بين مساند للسلطة ومعارض لها.
وعملت كل تلك التفاعلات السياسية المجتمعية على بلورة وعي مناهض للحكم الملكي بالعراق الذي لم يتمكن من استباق ما يحدث من تغيرات سريعة في المجتمع، ونشأت فيه تنظيمات تدفع باتجاه السباق نحو التغيير، كان أسرعها تنظيمات الجيش السرية المتمثلة بـ"حركة الضباط الأحرار" إثر عودة ألوية الجيش التي اشتركت في حرب فلسطين في عام 1948، التي عجلت بانقلاب يوليو 1958، الذي كان بتأثير من الثورة المصرية التي حدثت في يوليو 1952.
قوة الجيش الصاعدة
تسليح الجيش وتنمية قوته، التي وضع خططها نوري السعيد رئيس الحكومات العراقية المتعاقبة، كانت كالسحر الذي انقلب على الساحر، جراء عوامل داخلية وأخرى خارجية، وأحدثت نقلات في المجتمع العراقي لمصلحة السلطة العسكرية ممثلة بالجيش، ولمصلحة الأحزاب التي وجدت في تطلعات المجتمع الجديد موجة امتطتها، كي تصل إلى السلطة حيناً أو تقتص من خصومها الإقطاعين، أصحاب الإرث التاريخي في ظلم العمال أحياناً أخرى.
تغالب سلطة الدولة
ويقول الباحث جمال حسن العتابي إن "سلطة العشيرة تراجعت لصالح مؤسسات جديدة، إثر عملية التغيير التي حدثت في يوليو 1958، التي أدت إلى نهاية النظام الملكي، الذي يوصف بإنه نظام شبه إقطاعي". وأضاف، "لقد أربك هذا التحول المشهد الطبقي في العراق، ولم تتضح تركيبة طبقية واضحة المعالم، بل لوحة مشوهة من التركيب الطبقي، إذ إنه في الريف تداخلت علاقات الإقطاع مع تقاليد الانتماء العشائري، فأحزاب اليسار العراقي وقفت إلى جانب الفقراء من الفلاحين، واتضحت الصورة أكثر بعد يوليو 1958، بصدور قانون الإصلاح الزراعي، ومنذ ذلك التاريخ، وبدأت صفحة جديدة في تطور الطبقة الوسطى العراقية، من حيث عددها وتركيبها في المجتمع بخاصة بعد أن تقلد أبناؤها المناصب الحكومية، وهيمنت على القرار السياسي، امتداداً لما بدأه الملك فيصل الأول في ترجيح أبناء المدن على أبناء العشائر، في بناء أجهزة الدولة، فحدثت لحظة الافتراق بين هذه الطبقة والعشيرة، حينما تضررت مصالح الإقطاع، فلجأ أبناؤه إلى الانخراط في أحزاب معارضة لسلطة الزعيم ونفوذ اليسار آنذاك".
وتابع العتابي "من اللافت للانتباه أن يهمش حكم الطبقة الوسطى في العهد الجمهوري وأن رجال الدولة من أصول بغدادية، لصالح عناصر من مدن صغيرة طرفية، متأثرة بالثقافة العشائرية والمناطقية. وتصاعدت هذه الظاهرة بحدة في عهد صدام، لتتحول إلى سلطة القرية والعشيرة والعائلة، وفي كل مفاصل التاريخ تتجه القوى الثورية دائماً نحو الطبقات المستضعفة، كمادة أساسية للتغيير. وبانت إحدى مظاهر التخريب حينما بدأت الحكومات بـ"ترييف المدن"، وحينما نتحدث عن التمدن كمعطى ثقافي فهذا يعني الحديث عن نشاط اجتماعي قائم على أساس المواطنة، فالعشائر تتعارض مع هذا المضمون المدني كلياً، لأن ولاءها عائد لسلطة شيخ العشيرة لا للدولة أو للنظام أو القانون، وحين تتراجع قيم المدينة ويتم "تتريف المدن" لتصبح أعراف القبيلة هي السياسة الوحيدة الممكنة، أو لتصبح السياسة بذاتها تقليداً لأعراف القبيلة، ويغيب مفهوم المواطنة، هذه الرؤية مسؤولة عن نشوء مجتمعات مختلفة، القائد والرمز يتحول تماماً، إلى شيخ عشيرة، له رعاية خاصة تحت ظله تماماً كالقبيلة التي تطيع شيخها (شيوخ، أفخاذ، أتباع، فروع وعموم). حينذاك تتخلخل كل المنظومة الأخلاقية والقانونية، فلا واجبات ولا حقوق، وستخضع الدولة بكاملها لمنطق قبلي قائم على أساس الوفرة العددية للمكون والطائفة والقبيلة، ومن البديهي دائماً أن تنتعش هذه السلطة بغياب القانون وانهيار الدولة، وهذا ما حصل بعد الاحتلال الأميركي في عام 2003، وقبله في أعوام التسعينات إثر حرب الكويت".
علاقة مرتبكة
ويذهب الباحث العتابي بعيداً في توصيف العلاقة المختلة بين الحكومات والعشائر، فقال إنه "في حال ضعف الحكومات وانهيارها الوشيك، غالباً ما تلجأ الحكومات الضعيفة والمنهارة في تعاملها مع شيوخ العشائر، إلى تقديم الرشاوى والسلاح لهم، معتقدة أن هؤلاء سيوفرون الحماية لها خشية السقوط، وهم عادة أضعف حلقات المجتمع وأكثرها انتهازية ونفعية. وثمة ظاهرة برزت ما بعد يوليو 1958، أستطيع توصيفها بتدمير معنى التضامن الاجتماعي، الذي كان سائداً بين الناس بطرق عفوية في الأحياء والحارات الشعبية، بل في عموم المجتمع، ومن خلال ظهور تنظيمات جديدة، نسميها منظمات حزبية، وهناك مفهوم أسميه الضد النوعي، هذا الضد لاستدعاء وتشجيع فئات طارئة على تنظيم المجتمع العراقي وطارئة على الإبداع والثقافة والحياة، ودائماً ما تلجأ هذه الحكومات الضعيفة إلى تعويض فراغ المشهد من رموزه، وعادة هناك شك في ولاءاتهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
برغماتية عشائرية
ويعزو عميد العلوم السياسية بجامعة بغداد، نديم الجابري، هذا الواقع الجديد الذي تكون بعد قيام بعض الرموز العشائرية بالتقرب من الأحزاب الحاكمة في العراق لتعزيز مكانتها الاجتماعية، قبالة سعي الأحزاب إلى كسب ود العشائر لأسباب انتخابية وأمنية، مما أنشأ نوعاً من التشابك المركب في العلاقة بينهما، أفضى إلى إفراغ الدولة المدنية من محتواها وأضعف وحدة العشائر، لأن كثيراً من أفرادها توزعوا بين الأحزاب، انتماء أو موالاة، فكان الرابح الأساس من هذه العلاقة هو الأحزاب الحاكمة لأنها تضمن عدم خروج العشائر عليها، من جهة، كما تضمن أصواتاً في أي انتخابات تجرى من جهة أخرى. ولذلك سعت الأحزاب إلى تأطير العشائر إما عن طريق دائرة العشائر في وزارة الداخلية أو عن طريق تنظيمها في مجالس كمجالس الصحوات أو المكاتب العشائرية ضمن تنظيمات الأحزاب وهياكلها".
ويضع الجابري قواعد محددة للعلاقات السليمة بين العشائر والأحزاب من خلال قوله إنه "كي تكون علاقة سليمة ومتوازنة بين الطرفين، على الأحزاب ألا تزج العشائر في السياسة، لأن ذلك يخل بالدولة المدنية وبأبوة العشائر في المجتمع العراقي، في الوقت الذي يجب أن يعي فيه رموز العشائر ضرورة عدم الانتماء إلى أي من الأحزاب والبقاء كمرجعية اجتماعية تمارس دوراً أبوياً للأحزاب والمجتمع".
حين تختفي الدولة
تشابكت أدوار العشائر والأحزاب بعد عام 2003، حين اختفت الدولة السابقة واضمحلت بعد الاحتلال، فبرز دور جديد للعشائر، بالاقتراب أكثر إلى السلطة وممارسة أدوار مركبة. وعن ذلك يقول الأستاذ في تاريخ العراق السياسي مؤيد الونداوي، إن "العشائر أدركت بغريزتها طبيعة المشكلة السياسية، فتبعث لربما أفراداً منها ليكونوا طرفاً في البرلمان العراقي، لكنها لا تتقدم بنفسها بشكل واضح، لتقول إنها موجودة داخل البرلمان. العشائر كانت أيضاً، أخذت منحى آخر ذكي، إذ لم تتورط بالصدامات السياسية، بين الجماعات السياسية التابعة للأحزاب أو الميليشيات. وفي منحى مختلف، ممكن لشيخ العشيرة أن يفصل بجريمة، أو حادثة اجتماعية، لكنه لا يفصل بالمسائل السياسية، فغالبية العشائر تدرك خطورة هذا المنحى. وحتى الأحزاب والميليشيات، فرضت على العشائر، ألا تتدخل في كثير من هذه الشؤون. نحن إزاء وضع استثنائي، وهو متغير متحول، يمكن أن ينقلب إلى صالح العشيرة في ما بعد، وليس لصالح الأحزاب".
ويعزو الونداوي هذا التحول في سلوك العشائر العراقية، التي كانت منضبطة ومتحسبة لقوة النظام السابق وبطشه في حال خروجها على سياسته، مستخدماً كل الأسلحة بما فيها الطائرات والمدفعية الثقيلة، وأرجع خروجها الجماعي على النظام بقوله إنه "بعد عام 2003 شعرت العشائر بضعف الدولة، وضعف القانون، فأخذت توسع مكانتها، وبدأ الشيخ يظهر بوضوح، أما بسبب الحاجة إليه من قبل أفراد العشيرة، كي يحموا أنفسهم من العشائر الأخرى ومن المشكلات الاجتماعية، أو انه يفرض سطوته على منطقته، في علاقاته مع المحافظ ومع الحكومة، والشركات العاملة في محيط نفوذه، لهذا نرى ظاهرة جديدة، أن المضائف بدأت تأخذ مساحات كبيرة، وصار لها دور جديد، لم يكن سهلاً على الشيخ تقلده عندما كانت الدولة قوية، والقانون قوي، لأنه عندما تكون الدولة قوية والقانون قوي، يتراجع دور الشيخ، وينحصر في زوايا ضيقة وغالباً ما تكون بأمور بسيطة. لكن عندما يضعف القانون والدولة تبرز مكانة الشيخ العليا، باعتباره البديل الذي يؤمن الحماية للعشيرة، مع المكونات المحيطة مع عشيرته، الذي يمكن أن ينسق حالة العلاقات الأخرى".
الأحزاب الأيديولوجية
لا تجد في كل النظم الداخلية للأحزاب العراقية اهتماماً كبيراً، بمكانة العشيرة وشيخ العشيرة، فمعظم الأحزاب السياسية خصوصاً الأحزاب الأيديولوجية، كانت تفكر بطريقة يصفها الونداوي بأنها "أكثر تحضراً من فكرة العشيرة ودورها في السياسة. لا الشيوعيين ولا البعثيين، فكروا باهتمام بمكانة العشيرة ودورها السياسي، حتى بقية الأحزاب من اليسار واليمين والديمقراطي الاجتماعي ما كانوا مهتمين بالعشيرة، بل اهتموا بالمجتمع الحضاري، وينظر بطريقة تنظيم علاقاته الاجتماعية المبنية على أسس قانونية واضحة، وليس أسس عشائرية وغير ذلك، لهذا تراجع دور الشيخ طول هذا الوقت. أستطيع أن أقول أن العشائر، تحاول أن تستعيد مكانتها السياسية، بعضها منتفع من النظام السياسي الحالي، وبعضها ينتظر أن ينتفع أكثر، لكن بعضها ربما يعاني من هذا النظام، لأسباب سياسية، وينتظر الوقت الذي يستعيد فيه مكانته، لكن جميع العشائر الآن تحترم بعضها بعضاً، في ما يتعلق بفض النزاعات والإشكالات بين أفرادها، وهذا الأمر جار بقوة، على رغم مشكلاته، لكن يعطيك إشارة، أن المجتمع يدرك مشكلاته فيعود إلى العشيرة، ويستند إليها في كثير من الأمور، ومن الواضح أن المنظومة السياسية العراقية لا تسمح للعشائر بالتدخل في الشؤون السياسية العامة، للدولة ولا حتى في علاقاتها الخارجية".
البعث وحزب العشيرة
لكن الدبلوماسي السابق، أحد أعيان تكريت، مناف العلي، يرى ضرورة إدراك طبيعة الحكم وأن حكم البعث (1968- 2003) أسس لمشكلات لم يتمكن العراق من تخطيها. ويقول إنه "بعد الفترة الممتدة بين 17 و30 يونيو 1968 حين وصل حزب البعث إلى السلطة تكرس التأثير العشائري بشكل لا مثيل له في تاريخ العراق الحديث، بقيادة الثنائي أحمد حسن البكر وصدام حسين. لقد كان الاثنان من عشاق السلطة، ولم يكن الحزب سوى الأداة التي أوصلتهم إليها. كان البكر عسكرياً ولم يسبق له الانتماء إلى الحزب، والمرور بالتسلسل الحزبي المعروف. وبعد نجاح انقلاب الثامن من فبراير (شباط) 1963، أصبح البكر عضواً في القيادة القطرية، لذا فهو يجهل الأعراف والتقاليد الحزبية، فوجد ضالته في صدام حسين، الذي ترعرع داخل الحزب، إضافة الى ذلك فهما ينتميان إلى عشيرة البيجات نفسها التي تقطن في قرية العوجة بتكريت، وهما ممن يؤمنون بضرورة دعم العشيرة لتقوية الحكم، في الوقت نفسه فإن صدام يفتقد إلى دعم العسكريين الذين كان ولاؤهم للبكر، الذي وفر لصدام الحماية من العسكر، الأمر الذي مهد له الوصول إلى الموقع الأول في الدولة والحزب الذي افتتح عهده بتصفية رفاقه، الذين كانوا يعارضون تسلمه الموقع الأول، فكانت العلاقة بينهما علاقة تخادم، كل لبلوغ غايته. ولكون البكر من المدرسة القديمة، التي ساهمت بتأسيس الدولة العراقية، فكان أكثر التزاماً بالقوانين وأعراف الدولة، فعندما يفرض عليه شيء، من قبل قيادة الحزب، كان لا يخفي تذمره، وكان يشتم الحزب ومؤسسته أحياناً، وبعد استلام صدام حسين رئاسة الدولة والحزب، تغيرت الأمور كلياً، فهو منذ نشأته يؤمن بأن الحاكم يجب أن يكون بمقدوره أن يسن أي قانون، كما أن خزانة الدولة يجب أن تكون تحت تصرفه، وهذا ما طبقه فعلياً".
ويتابع العلي وهو كان مقرب من آلية حكم البعث ومن الأسرة الحاكمة، ثم منشق عنها في ما بعد، قائلاً "فانتقل الحكم من حكم الحزب إلى حكم العشيرة، والمفارقة أن جميع أخوته وأبناء عمومته الذين استقدمهم إلى بغداد، لم يكملوا الدراسة الإعدادية، لكنهم تقلدوا أرفع المناصب والرتب العسكرية، من دون دخولهم إلى الكلية العسكرية، وكانت قرارات صدام تصدر باسم مجلس قيادة الثورة. ولغرض السيطرة على جميع مفاصل الحكم في الدولة والحزب، اعتمد صدام أسلوب الإغراء والترهيب معاً، فكان يوزع الهبات على العسكريين وقيادات الحزب لكسب ولائهم، ويسند المناصب المهمة إلى أبناء عشيرته، ولم يتردد في إعدام كل من يشك في نواياه، وكانت هزيمة صدام في احتلال الكويت وخروج المحافظات في انتفاضة ضده، اضطرته إلى الاهتمام بالعشائر لدعم حكمه، فأنشأ مديرية عامة للعشائر مرتبطة برئاسة الجمهورية، وبدأ بإغداق الأموال والأسلحة والهدايا عليهم، لكن من المعروف تاريخياً أن العشائر تتبع لأية سلطة قوية، وقد تتحالف معها في سبيل مصالحها، ولكن بالمقابل فإن العشائر سرعان ما تنقلب وتتمرد إذا شعرت أن السلطة أصبحت ضعيفة، وهذا ما حصل في أواخر حكم صدام، وما يحصل حالياً، لا سيما بعد أن تمكنت العشائر، من نهب معسكرات الجيش العراقي، بعد الإحتلال الأميركي عام 2003". ويختم حديثه بالقول إنه "إذا لم تحدث معجزة للعراق عبر مجيء حكومة وطنية، تسعى إلى بناء الدولة من جديد وفق أسس عصرية فسيبقى العراق تتقاذفه العشائر والميليشيات والعصابات الإجرامية".