تسببت مشاعر الخوف والمعلومات الكاذبة حول مزاعم وجود أسلحة دمار شامل في العراق وارتباط نظام صدام حسين بتنظيم "القاعدة" في دعم الشعب الأميركي للحرب قبل 20 عاماً، بعدما وافقت جميع الفروع الثلاثة للحكم في إطار نظام الضوابط والتوازنات على قرار الحرب الذي اتخذته إدارة جورج دبليو بوش، فكيف تمكنت هذه الإدارة من صنع سيناريو استهدف إسقاط نظام الرئيس العراقي، ثم كيف تراجع الدعم الشعبي للحرب بسرعة بعد عامين فقط لينتهي بإحساس عام بالخداع والتضليل؟
إجماع على الحرب
كان الرئيس الثالث للولايات المتحدة توماس جيفرسون أول من يرسل قوات عسكرية أميركية إلى الشرق الأوسط عام 1801 في ما يعرف بالحرب البربرية الأولى أو الحرب الطرابلسية نسبة إلى طرابلس الليبية، واتخذ جيفرسون القرار من دون إعلان حرب رسمي ومن دون موافقة الكونغرس، لكن جورج دبليو بوش الذي تولى الحكم من يناير (كانون الثاني) 2001 وحتى 2009 كان مختلفاً، فتمتع بموافقة الكونغرس على استخدام القوة العسكرية ضد العراق في أكتوبر (تشرين الأول) 2002 ونال تأييد محكمة استئناف فيدرالية أميركية في نزاع قضائي استهدف إلغاء قرار حرب العراق باعتباره غير دستوري.
والأهم من ذلك أن تأييد الشعب الأميركي للحرب كان هائلاً بعد إقناعه على مدى أشهر أن صدام حسين يخفي أسلحة دمار شامل في العراق وأنه يرتبط بتنظيم "القاعدة" الذي شن هجمات 11 سبتمبر (أيلول)، فأظهر استطلاع للرأي أجرته صحيفة "واشنطن بوست" بعد عامين من أحداث 11 سبتمبر أن 69 في المئة من الأميركيين في ذلك الوقت اعتقدوا بأن صدام حسين كان متورطاً بشكل شخصي في الهجمات التي ضربت مراكز السلطة والمال في واشنطن ونيويورك، بينما اعتقد 82 في المئة منهم بأن صدام قدم المساعدة لأسامة بن لادن، ليتبين أن كليهما مخطئان تماماً.
كان نجاح الإدارة في هذه الجهود نتيجة عوامل عدة، ليس أقلها مناخ الرأي العام في ذلك الوقت، إذ أمضى بوش وكبار أعضاء إدارته أكثر من عام في تحديد الأخطار التي زعموا أن العراق يمثلها للولايات المتحدة وحلفائها، بينما كان الأميركيون لا يزالون يترنحون من أهوال هجمات 11 سبتمبر الإرهابية، وكانوا يقبلون بشكل غير عادي الاستخدام المحتمل للقوة العسكرية كجزء مما سماه بوش "الحرب العالمية على الإرهاب" وفقاً لاستطلاع مركز "بيو" للأبحاث في ذلك الوقت.
بداية مضللة
لكن بعد 20 عاماً، يتذكر معظم الأميركيين حرب العراق الآن على أنها حرب الرئيس جورج دبليو بوش التي بدأها من جانب واحد مع تضليل متعمد للجمهور، فكان مهووساً بفكرة إطاحة نظام حكم الرئيس العراقي صدام حسين، ووفقاً لشهادة نشرها الخبير في مركز "ستروب تالبوت" للأمن والاستراتيجية بروس ريدل الذي كان عضواً في مجلس الأمن القومي ويلتقي بشكل يومي مستشارة الأمن القومي آنذاك كوندوليزا رايس وبوش، فقد أجرى الرئيس السابق أول مكالمة هاتفية له مع رئيس وزراء بريطانيا توني بلير بعد هجمات 11 سبتمبر عام 2001 وقال له إنه يخطط لضرب العراق على رغم من عدم توافر أي معلومات استخباراتية بأن البلاد متورطة في الهجمات.
كما دعا وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد آنذاك فوراً بعد ظهر يوم الهجمات، إلى استخدام الجيش الأميركي لمهاجمة صدام حسين وكذلك أسامة بن لادن، معلناً أن الولايات المتحدة يجب أن تنطلق بقوة وتكتسح كل شيء.
وحتى عندما حولت الإدارة جهودها في البداية إلى الهجوم على أفغانستان بعد رفض حركة "طالبان" تسليم أسامة بن لادن وقادة تنظيم "القاعدة"، سرعان ما عادت للتركيز على العراق، ففي خطابه عن حالة الاتحاد عام 2002، بعد أربعة أشهر من هجمات سبتمبر، بدأ بوش بتوضيح سبب حاجة الولايات المتحدة إلى استخدام القوة العسكرية لإطاحة صدام حسين من السلطة، وقال إن العراق يواصل التباهي بالعداء لأميركا ودعم الإرهاب وإن بغداد خططت لتطوير الجمرة الخبيثة وغاز الأعصاب والأسلحة النووية لأكثر من عقد.
وصنف بوش العراق ضمن ثلاث دول شكلت "محور الشر"، إلى جانب إيران وكوريا الشمالية، لكن العراق لفت انتباه الرئيس السابق أكثر بكثير من تلك الدول، مستغلاً أن الأميركيين كانوا يميلون إلى تصديق الأسوأ في شأن نظام صدام حسين بفضل التركيز السياسي والإعلامي على مزاعم أسلحة الدمار الشامل.
ففي استطلاع أجري قبل أسابيع قليلة من خطاب حالة الاتحاد، أيد 73 في المئة العمل العسكري، حتى لو كان ذلك يعني أن القوات الأميركية ستتكبد آلاف الضحايا، بينما عارضه 16 في المئة فقط، كما قال 62 في المئة من الأميركيين إنهم قلقون جداً أو قلقون إلى حد ما من هجوم إرهابي آخر وشيك على الولايات المتحدة.
عامل الصدمة الجماعية
ويبدو أن تضليل الرأي العام يصبح أيسر كثيراً عندما يكون المجتمع لا يزال تحت تأثير ما يسمى عامل "الصدمة الجماعية"، على حد وصف أستاذ الدراسات الكلاسيكية بجامعة "برانديز" جويل كريستنسن الذي يعرفها بأنها مصطلح يصف التجربة المشتركة وردود الفعل تجاه حدث صادم من قبل مجموعة من الناس أو من المجتمع بأسره مثل هجمات 11 سبتمبر التي ضربت الثقة الأميركية الجماعية بسلامتها وشعورها بالمكانة في العالم، مما يوضح أن المآسي الجماعية يمكن أن تشكل النظرة الشاملة للأفراد حتى لو لم يكونوا حاضرين في الحدث، وربما تمر المجموعة المصابة بصدمة نفسية بمراحل مشتركة من الحزن تتدرج من عدم التصديق إلى الغضب.
وكلما ابتعدت المجموعة عن الحدث الصادم نفسه كلما اقتربت من الذاكرة الاجتماعية، وهو مفهوم يستخدمه المؤرخون لوصف كيف تأتي مجموعات من الناس لمشاركة قصة متسقة حول الأحداث الماضية، بحيث يمكن التلاعب بهذا السرد لتحقيق الأهداف التي تعكس قيماً محددة في الوقت الحاضر.
البلاغة وحمل السلاح
وبالنظر لأحداث 11 سبتمبر، كان الأميركيون في قلب صدمتهم الجماعية عندما تمحور الحديث حول خطاب الحرب، فأجرى بوش وكبار مسؤولي إدارته مقارنات بقصص ثقافية أو وطنية مشتركة من الماضي مثل وصف الإرهابيين بالأشرار وأن قتالهم "حملة صليبية جديدة" و11 سبتمبر "بيرل هاربور" جديدة، الأمر الذي جعل من الممكن غزو أفغانستان، ومن بعدها العراق باعتبار أن هذه اللحظة أشبه بلحظة "خليج تونكين" لتبرير الغزو الأميركي للعراق، في إشارة إلى حدث عام 1964 الذي حفز على مشاركة عسكرية أميركية أكبر في حرب فيتنام.
ولا يعد هذا جديداً، فعلى مر التاريخ كانت هناك روايات يونانية ورومانية قديمة عدة خلقت فيها الصدمة الجماعية في كثير من الأحيان فرصة للقادة لاستخدام الذاكرة الجماعية والقصص المشتركة للثقافة لإيجاد مبررات للهجوم على العالم من أجل المساعي الإمبراطورية من دون مبالاة بأي ضرر قد يحدث.
من قرطاج إلى بغداد
وعلى سبيل المثال، قاتلت مدينة روما وانتصرت في حربها الأولى مع مدينة قرطاج القوية التي تقع اليوم في تونس بين 264-241 قبل الميلاد، وفي حربها الثانية بين 218-201 قبل الميلاد، ثم فرضت روما تعويضات حرب ضخمة على قرطاج، مما ساعدها على الاستيلاء على الأراضي التي أرست الأساس للإمبراطورية الرومانية في كامل محيط البحر المتوسط، وأنهى هذان الانتصاران أي تهديد كبير شكلته قرطاج، لكن الثقافة الرومانية ظلت مهووسة بالحرب، ووفقاً للزعيم العسكري والمؤلف بليني الأكبر، اعتاد رجل الدولة كاتو الأكبر أن يصرخ مطالباً بتدمير قرطاج في كل اجتماع لمجلس الشيوخ الروماني، مما دفع روما في النهاية إلى خوض حرب ثالثة مع قرطاج وتدميرها بين 149-146 قبل الميلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشبه هذا السرد كيف تحرك بوش لغزو العراق من دون شرعية دولية في حرب دمرت بغداد وقتلت أكثر من 400 ألف شخص على مدى الأعوام التالية للغزو بعد نحو 10 سنوات من حرب الخليج الأولى التي حققت أهدافها بتحرير الكويت بغطاء دولي، وامتنعت عن غزو العراق على رغم تدمير الجيش العراقي بهدف الحفاظ على التوازنات الأمنية الإقليمية.
الخوف والتحريض
وبحسب أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا دوغلاس كلينر، تلاعبت إدارة بوش بالشعب الأميركي بمساعدة وتحريض من وسائل الإعلام الأميركية وباستخدام سياسة الخوف لدفع أجندة يمينية شملت تمرير "قانون باتريوت" المثير للجدل لتقييده حرية المواطنين الأميركيين والتغييرات الهائلة في النظام القانوني الأميركي والتوسع الكبير للجيش ودور القيادة الأميركية، في حين اعتبر أستاذ حل النزاعات في مركز السياسات العامة بجامعة "دوكين" دانيال ليبرفيلد أن تحول أميركا من صراع الحرب الباردة إلى دولة أحادية القطب كان سبباً إضافياً للتساهل في اتخاذ قرار الحرب الذي ساعدت عليه السياسات البيروقراطية لوكالات الاستخبارات، وكذلك العمليات النفسية للتفكير الجمعي داخل حكومة الحرب، فضلاً عن ميل بوش الشخصي تجاه الإيمان بأولوية الحرب وإحجامه المميز عن الدخول في تعقيدات تحليل السياسات.
وعلاوة على ذلك، فإن أيديولوجيا المحافظين الجدد لحماية تطلعات أميركا في الهيمنة والضرورة الليبرالية لنشر الديمقراطية أسهمتا في تعزيز توجه إدارة بوش لغزو العراق باعتبارها قوة مهيمنة خيرة ولأنها الدولة الوحيدة التي لديها الدوافع والموارد للقيام بهذه المهمة.
انهيار التأييد
ومع ذلك، فقد غزو العراق شعبيته بين الأميركيين في غضون عامين، ففي مارس (آذار) 2003، كان 71 في المئة من الأميركيين يقولون إن الولايات المتحدة اتخذت القرار الصحيح باستخدام القوة العسكرية في العراق، لكن هذه النسبة انخفضت إلى 47 في المئة عام 2005 بعد الكشف عن عدم وجود أسلحة دمار شامل، وفي 2018 اعتقد أكثر من نصف الأميركيين بأن الولايات المتحدة فشلت في تحقيق أهدافها.
ووفقاً لاستطلاع أجراه مركز "بيو"، يقول الأميركيون الأصغر سناً الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و39 سنة إن أهم القضايا الملحة هي الحد من الالتزامات العسكرية الأميركية في الخارج، في حين أن الجيل الأحدث الذين تقل أعمارهم عن 25 سنة، أقل احتمالاً من الأكبر سناً للاعتقاد بأن الولايات المتحدة يجب أن تتصرف بمفردها في الدفاع عن الديمقراطية أو حمايتها في جميع أنحاء العالم.
كما أنهم يتفقون في أن حروب الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان كانت مضيعة للوقت والأرواح وأموال دافعي الضرائب ولم تفعل شيئاً لجعل الأميركيين أكثر أماناً داخل وطنهم، وهم يفضلون أن تستخدم الولايات المتحدة الوسائل الاقتصادية والدبلوماسية بدلاً من التدخل العسكري لتعزيز المصالح الأميركية حول العالم.
صمت "أوميرتا"
أما بالنسبة إلى النخب السياسية، فلا يزال غزو العراق عام 2003 موضوعاً شبه محظور تقريباً في دوائر السياسة الخارجية للحزبين بصفة عامة وللحزب الجمهوري بصفة خاصة، فبعد سنوات بوش، ساد نوع من تنفيذ صمت "أوميرتا" في شأن حرب العراق، وهو قسم الالتزام بالصمت المطلق لدى المافيا تحت أي ظرف من الظروف وعدم السعي إلى طلب العدالة أو المساعدة بأي شكل في الكشف عن الجرائم المرتكبة.
لكن بالنسبة إلى بوش الذي ارتبطت به حرب العراق باعتباره مهندسها الأساس وأحد أقوى المدافعين عنها، فاعترف في مذكراته لعام 2010 بحدوث أخطاء، وقال في مقابلة مع شبكة "إن بي سي نيوز" إن خطابه عام 2003 الذي كان عنوانه "المهمة أنجزت" كان خاطئاً.
وفي ما يتعلق بالفشل في العثور على أسلحة الدمار الشامل في العراق، قال بوش "لم يشعر أحد بالصدمة والغضب أكثر مما كنت عليه عندما لم نعثر على الأسلحة"، ومع ذلك لا يزال بوش يصر على أن شن الحرب في العراق وإزاحة صدام من السلطة هو الأمر الصحيح الذي كان ينبغي عمله.