كتائب حزب الله في جرف الصخر، أكتوبر 2014 (الأناضول)
أدى إغلاق مدينة جرف الصخر (تزيد مساحتها على 50 كيلومتراً مربعاً)، شمالي محافظة بابل، جنوبي العاصمة العراقية بغداد بنحو 60 كيلومتراً، منذ ما يقرب من ثماني سنوات بقرار من فصائل مسلحة حليفة لإيران، إلى ظهور العديد من الروايات حول طبيعة أنشطة تلك الفصائل داخل المدينة وبساتينها الكثيفة، من دون أن ينجح أي من مسؤولي الحكومات السابقة ولغاية حكومة محمد شياع السوداني، بالدخول إلى المدينة ونفي المعلومات المتداولة عما يحصل داخلها أو تأكيدها.
جرف الصخر التي تعتبر معقل عشيرة الجنابيين العربية في العراق إلى جانب عشائر أخرى مختلفة، ما زال سكانها البالغ عددهم نحو 180 ألف نسمة مُهجّرين في مخيمات ومعسكرات نزوح. وعلى الرغم من وعود متكررة لحكومات حيدر العبادي، وعادل عبد المهدي، ومصطفى الكاظمي، بإعادتهم، إلا أن أياً منها لم يتحقق.
وتخضع المدينة منذ استعادة القوات العراقية السيطرة عليها في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2014، لسلطة الفصائل المسلحة الحليفة لإيران، وانسحبت وحدات الجيش والشرطة منها بطلب من تلك الفصائل بعد أيام من السيطرة عليها، ولم تعد إليها حتى الآن، كما لم تتمكن من دخولها أيضاً.
وعاد ملف المدينة للبروز مجدداً بعد تصعيد القوى السياسية العربية السنّية حملة المطالبة بإنهاء احتلال المليشيات للمدن، وأبرزها جرف الصخر، والعوجة، والعويسات، وإبراهيم بن علي، والسعدية، وآمرلي، وقرى المقدادية ويثرب وسليمان بيك ومناطق أخرى، يقدر مجموع عدد أهاليها بأكثر من 400 ألف شخص.
أبو علي العسكري: العودة إلى أي منطقة هي كحلم عودة إبليس إلى الجنة
ومنتصف الشهر الحالي، قالت وزيرة الهجرة العراقية إيفان فائق جابرو إنها تتمنى زيارة جرف الصخر لكن لم يُسمح لها. وأضافت في مقابلة مع محطة تلفزيون محلية: "كنت أتمنى أن أزورها (جرف الصخر) لكن لا أعتقد أن أحداً يقدر على دخولها وتكلمت مع بعض الشخصيات، قادة سياسيين، وقالوا لا اتركي الموضوع إلى وقت آخر".
وطالب رئيس تحالف "السيادة" خميس الخنجر الحكومة بالمضي في تنفيذ وعودها بإعادة النازحين وفتح المدن وتشريع تعديل قانون العفو العام، ليشمل المعتقلين الذين انتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب، أو وفقاً لنظام "المخبر السري" (نظام أُنشئ في عهد نوري المالكي كأحد أساليب تحصيل المعلومات الأمنية) المعمول به في العراق. وردت مليشيا "كتائب حزب الله"، وهي أبرز المليشيات المسيطرة على البلدة، برفض الانسحاب من المناطق التي تسيطر عليها.
وقال المسؤول الأمني للمليشيا أبو علي العسكري، في بيان، إن عودة من وصفهم بـ"الإرهابيين" إلى "أي منطقة من مناطق البلاد ومنها عوجة، تكريت، آمرلي، بلد، أبو غريب، جرف الصخر، الكرمة، مناطق البو نمر، الجغايفة، سنجار، ومثيلاتها، هي حلم عودة إبليس إلى الجنة".
عقب التصعيد والتراشق الإعلامي المتواصل منذ أيام عقد السوداني لقاءً مع عدد من القيادات السياسية العربية السنّية في مسجد أبو حنيفة النعمان ببغداد، من دون أن يتم الكشف رسمياً عن أي تفاصيل عما دار في الاجتماع.
لكن نائباً في البرلمان، كشف لـ"العربي الجديد"، أن السوداني طالب تلك القوى بإمهاله وقتاً لتهيئة الأجواء وإعادة فتح المدن والمناطق تدريجياً. ونقل النائب عن أحد المشاركين في الاجتماع قوله إن "السوداني لم يعط أكثر من وعود وتأييده لإنهاء أزمة النزوح، وكان واضحاً أنه لا يمكنه إصدار القرار في هذا الملف تحديداً". وأشار إلى أن بعض المشاركين في الاجتماع تحدثوا عن "تدويل الملف في حال فشلت الحكومة بإنهاء أزمة النازحين والمختطفين".
ماذا يوجد داخل جرف صخر؟
في المقابل، كشفت مصادر مقربة من جماعة "كتائب حزب الله"، التي تسيطر على المدينة إلى جانب مليشيات أخرى أبرزها "عصائب أهل الحق" و"النجباء"، وهذه الجماعات هي الأكثر ارتباطاً بإيران، وجود ما لا يقل عن 20 مقراً رئيساً للفصائل المسلحة في جرف الصخر، تتضمن مخازن السلاح الثقيل والمتوسط وورشاً ومصانع مختلفة، بينها للطائرات المسيّرة، فضلاً عن مقرات إيواء لعناصر تلك الفصائل.
وتطابقت إفادات لمصدرين مقربين من "كتائب حزب الله"، أحدهما مرشح في الانتخابات السابقة عن كتلة "حقوق"، الجناح السياسي للجماعة، حول طبيعة الأنشطة الحالية داخل المدينة المغلقة.
وأكد لـ"العربي الجديد"، أن "البلدة وضواحيها مقسمة على عدة فصائل تنتشر داخلها، وكل فصيل يمتلك مخازن ومقرات وأنشطة خاصة به، لكنها تشارك في ملف إبقاء إغلاق المدينة وهناك سيطرة مركزية في هذا الإطار لكتائب حزب الله".
وشرح أن "منشأة تابعة لهيئة التصنيع العسكري السابقة في ضواحي جرف الصخر، تم الاستيلاء عليها من قبل حزب الله، في المقابل فإن مبنى الناحية ومدرسة إعدادية قريبة باتت مقراً لمليشيا عصائب أهل الحق". وأكد وجود مركز صيانة وتطوير بعض الأسلحة في جنوب المدينة من جهة قضاء المسيب، بما فيها طائرات مسيّرة.
وأكد مصدر آخر، وهو قريب أحد أعضاء جماعة "حزب الله"، ويسكن منطقة المسيب المجاورة لمدينة جرف الصخر، أن "منازل البلدة المدمرة تم انتزاع حديد التسليح والنوافذ والأبواب منها ونقلها خارج المدينة من قبل عناصر المليشيات أنفسهم، بينما الأخرى إما مهجورة أو تم اتخاذها مقرات مبيت ومخازن أسلحة وصواريخ وذخيرة".
يتوزع في جرف الصخر أكثر من 20 مقراً رئيسياً للفصائل
ولفت في حديثٍ مع "العربي الجديد" إلى أن "بساتين النخيل والحمضيات في جرف الصخر تم استغلالها تجارياً من قبل تلك الفصائل، وهناك مزارع للسمك التي تشتهر بها المدينة عادت لتبيع في مناطق مجاورة، وتحديداً في أحياء ونواحي العسكري والحامية والمسيب، ويشرف عليها أعضاء الفصائل أنفسهم الموجودون بالمدينة". وكشف عن وجود ما وصفه بـ"محاجر احتجاز"، وهي التسمية الدارجة للسجون الخاصة بالمليشيات المسلحة.
ووفقاً للمصدر ذاته، فإن "لكل جماعة محجر احتجاز، يختلف سبب وجود من يتم اقتياده إليها، لكنهم بالعادة ليسوا بالعدد الكبير الذي يجري الحديث عنه ويتم التحقيق معهم هناك، كان آخرهم ناشط من محافظة ذي قار احتجز عدة أيام وأطلق سراحه الشهر الماضي".
وأكد أن سماع أصوات انفجارات وإطلاق نار بين وقت وآخر من داخل المدينة سببه "تدريب على الذخيرة الحية للعناصر الموجودة داخل جرف الصخر". ورداً على سؤال حول الحافلات وسيارات الحمل الكبيرة، التي تخرج من المدينة مغطاة بالقماش، قال إنها "تتبع للفصائل، ولم يُجرّب الجيش إخضاعها للتفتيش بعد خروجها من المدينة لمعرفة ما تحمل".
مخاوف من تغيير ديمغرافي
من جهته، اعتبر الناشط السياسي من محافظة بابل علي الجنابي، في حديثٍ مع "العربي الجديد"، أن القوى السياسية السنّية التي صوتت لصالح تشكيل الحكومة، أخذت تعهدات من السوداني ومن قوى الإطار التنسيقي بفتح المدن منزوعة السكان، لكن هناك تراجعاً واضحاً عن هذه التعهدات.
ورأى أن "المليشيات المسيطرة على البلدة ليس لديها أي عذر أمني يمنع الأهالي من العودة إلى بلدتهم، لكن يبدو أن هناك مصالح سياسية واقتصادية في استمرار السيطرة عليها، وإجراء عملية تغيير ديمغرافي فيها". وأكمل الجنابي: "القوات العراقية قادرة على تولي ملف البلدة أمنياً. المعلومات تفيد بأن المليشيات تمارس أنشطة اقتصادية وعسكرية".