في بلدة جبايش جنوبي العراق، يقف منصور عباس ممسكًا ذراعي ابنه الصغير على حافة قاربه، الذي سُحب إلى شاطئ ممر مائي صغير يتصل بنهر الفرات. تغرب الشمس من سماء صافية، فيما يتجمع في الظل على بعد أمتار قليلة مجموعة صغيرة من جاموس الماء، بقعها البيضاء مصبوغة بالحناء اللون البرتقالي. في هذا المشهد فإن الشيء الوحيد الذي يتداخل مع اللون الأزرق كان بئر النفط، الذي يطلق خطًّا مستقيمًا من النار في السماء.
انتقل عباس، الذي يبلغ من العمر 40 عامًا، إلى هذه المنطقة عام 2015. وقبل ذلك، كان يعيش في منطقة أعمق في الأهوار، حيث اعتاد صيد الأسماك وتربية قطيع مكون من 55 من جاموس الماء. تمحور جزء كبير من الاقتصاد المحلي حول «الهدايا» التي قدمها جاموس الماء، حيث كان السكان المحليون يبيعون الحليب، أو يحولونه إلى جبن أبيض، أو طعام شهي مُحلى بالكريمة يسمى «قشطة القيمر». ولكن مع جفاف المياه بالقرب من منزله، لم يعد بإمكان عباس مواصلة الصيد، كما مرض معظم قطيع جاموس الماء ومات، ولم يبق له سوى خمسة. يقول عباس إنه ما زال يحلم بالعودة إلى منزله القديم، لكن «للأسف لا توجد مياه هناك»، وفق تعبيره.
بهذه المأساة افتتح الكاتب جستن صالحاني تقريره على “Newlines Magazine” الحديث عن جفاف أهوار العراق، والذي يحدث بفعل الإهمال الحكومي لصالح أولويات أخرى، وتذكر المجلة أنه عندما يتعلق الأمر بالأمن المائي والغذائي، فإن العراق هو خامس دولة معرضة للخطر على هذا الكوكب. ومن جانب آخر فالعراق ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة «أوبك» بعد السعودية، ويضخ نحو 4.5 مليون برميل نفط يوميًّا.
وفي عام 2022 تجاوزت عائدات النفط 115 مليار دولار. وتساعد هذه الإيرادات في دفع رواتب القطاع العام، وفي تمويل الواردات الغذائية اللازمة للبلاد. لكن مشكلتها أنها جعلت العراق أحد أكثر دول العالم اعتمادًا مطلقًا على النفط، وفقًا لبيانات البنك الدولي. على مدى العقد الماضي وحده، شكَّل النفط أكثر من 99% من صادرات العراق، و85% من ميزانية الحكومة الكلية، و42% من الناتج المحلي الإجمالي.
جفاف الأهوار.. إهمال من الداخل وضغوط من الخارج
بالنسبة لسكان الجبايش وغيرها من أهوار العراق، فإن آبار النفط هذه تذكير دائم بإهمال الحكومة. «الحكومة؟» رد عباس بتهكم حين سُئل عن رد فعل الدولة: «لم يفعلوا شيئًا». يتذرع المسؤولون في وزارة الموارد المائية بمختلف مستوياتهم بأنهم لا يتحصلون على التمويل الكافي لمواجهة التحديات المختلفة في البلاد، كما يكررون كذلك الحديث عن دور التغير المناخي، وبينما يتأثر العراق بالتأكيد بهذا الأمر، فإن الناشطين في مجال البيئة يقولون إن الحكومة تستخدم تلك القضية للتنصل من أي مسؤولية عن الفشل في قضية المياه.
يصرح عزام علوش، الناشط العراقي البيئي لمجلة «نيولاينز»: «يمكنك التقاط صور للأهوار الجافة وتقول مثالًا على تغير المناخ، لكن الحقيقة أنها في الواقع نتيجة لسوء إدارة المياه».
تمتد الأضرار التي لحقت بالأهوار (والتي أعلنتها اليونسكو أحد مواقع التراث العالمي في عام 2016)، إلى ما يقرب من 1200 ميل مربع (نحو 3100 كيلومتر مربع). وفي حين لا يبدو أن الحكومة تكترث كثيرًا بهذه النكبة البيئية، فإن الأمر كارثي تمامًا بالنسبة لعباس وأفراد مجتمعه. جاء عباس إلى هذا الجزء من الجبايش حتى يتمكن من مواصلة تربية جاموس الماء وصيد الأسماك. ولكن ما حدث هناك بالأمس يتكرر بحذافيره هنا أيضًا.
وينقل التقرير أنَّه وفقً لـ«هيومن رايتس ووتش»، يعود سوء الإدارة الحكومية في ملف المياه إلى ثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت العديد من الحكومات العراقية مسؤولة عن سوء إدارة منابع المياه، والفشل في معالجة التلوث والصرف الصحي، بالإضافة إلى الإهمال المزمن، وسوء إدارة البنية التحتية للمياه. أدت هذه الإخفاقات إلى نقص المياه، وتدهور جودتها. وكما هو معروف، فبدون تدفق المياه العذبة، تزيد ملوحة المياه المستخدمة للري، ما يعني موت المحاصيل وتضاؤل فرص حصول البشر والحيوانات على مياه الشرب النظيفة، يؤدي هذا إلى تآكل قطاع الزراعة في البلاد، والذي يوظف 8.4% من السكان وهو ثالث أكبر قطاع توظيف في العراق.
كان لجيران العراق أيضًا دور في تفاقم أزمة المياه، فقد بنت تركيا في العقود الأخيرة سلسلة من 22 سدًّا، منهم سد أتاتورك، ثالث أكبر سد في العالم. وهو ما أدى إلى خفض تدفق المياه في نهري دجلة والفرات بأكثر من النصف. وإيران الأخرى حولت روافدها وأنهارها، منهم نهر كارون، ما أثر في مياه العراق. ويلقي العديد من السكان المحليين باللوم على تركيا في جفاف الأهوار. في بلدة الفهود مثلًا، على بعد 30 دقيقة غرب الجبايش، يشير سيد حسين البطاط، أحد القاطنين في تلك المنطقة، إلى نباتات صفراء جافة، مشيرًا إلى المدينة التي تبعد نحو 90 ميلًا: «كانت المياه موجودة على طول الطريق من هنا إلى مدينة العمارة». وعندما سئل عن المسؤول عن هذا التدهور، ذكر تركيا، والولايات المتحدة، وحكومته.
ورغم أن العراق يجتمع مرارًا مع السلطات التركية لمناقشة موارد البلاد المائية، لم يُحرز تقدم يذكر على الإطلاق. ويتحدث المعنيون بمجال البيئة عن غياب الإرادة السياسية للعمل مع الدول المجاورة، ويقول عزام علوش: «إذا لم نكن على استعداد للجلوس مع تركيا والوصول إلى حل، فلماذا لا نركز على تحديث الري وتقليل الفقد في المياه، ومن ثم لا تتعرض لتلك التأثيرات المهولة على البيئة والقطاع الزراعي عندما تقرر تركيا بناء سد ما» ويضيف: «تبدد الحكومة النفط في شكل رواتب لموظفي الحكومة الذين لا ينتجون شيئًا ذا قيمة».
العراقيون بين مطرقة الجفاف وسندان الحكومة
لكن الأهوار ليست المنطقة العراقية الوحيدة التي تعاني من جراء سياسات المياه الحكومية. يقول الصحافي البيئي العراقي خالد سليمان لـ«نيو لاينز»: «لست بحاجة إلى الخروج من بغداد لرؤية تأثير قضايا المياه في البلاد». وهو يرى أن «إلقاء النفايات في الأنهار مشكلة قومية من بغداد إلى البصرة». يُشار هنا أيضًا إلى الكُلفة البشرية، إذ أفادت تقارير أن أكثر من 100 ألف شخص أصيبوا بالتسمم بسبب المياه الملوثة في البصرة في عام 2018، وبينما يختلف الخبراء حول السبب الأكيد لما حدث، فإنهم يتفقون على أن ذلك كان نتيجة مباشرة للمياه السيئة.
وتعرضت الكثير من المجتمعات للتدمير، هاجرت عشرات العائلات إلى كربلاء ومدن عراقية أخرى، فيما تخلى آخرون عن العراق وسافروا إلى الخارج، وكان لسوء إدارة المياه عواقب ديمغرافية بعيدة المدى على الدولة، فقد ذكر «المجلس النرويجي للاجئين» أن واحدًا من كل 15 أسرة في العراق شهدت هجرة أحد أفرادها على الأقل من المناطق المتضررة بسبب الجفاف، كما أدى الفقر في جودة المياه إلى نزوح 20 ألف شخص داخل العراق، وفقًا لدراسة أجرتها «المنظمة الدولية للهجرة» عام 2021. في الوقت الذي أظهرت فيه استطلاعات الرأي التي أجراها «الباروميتر العربي» في يوليو (تموز) 2022 أن 35% من العراقيين يريدون الهجرة من البلاد.
يتحدث التقرير عن الاضطرابات السياسية، ففي صيف عام 2021، خرج مئات العراقيين إلى الشوارع للاحتجاج على انقطاع الكهرباء، وشح المياه مع تجاوز درجات الحرارة 120 درجة فهرنهايت (49 درجة مئوية)، يقول سليمان: «الأنهار في العراق تجف والحكومة مشغولة للغاية في مكافحة الخمور أو مطاردة ناشطي السوشيال ميديا». وحظرت الحكومة العراقية مؤخرًا استيراد المشروبات الكحولية وإنتاجها وبيعها، وسجنت ناشطي «تيك توك» الذين ينتجون ما تعده «محتوى فاسدًا».
ويجد الناشطون والمدافعون عن البيئة أنفسهم كذلك في مرمى سهام الحكومة، ففي أواخر فبراير (شباط) أصدرت «هيومن رايتس ووتش» تقريرًا يزعم أن «المسؤولين الحكوميين والجماعات المسلحة يستهدفون ناشطي حقوق البيئة لإسكاتهم وإرسال رسالة تهديد للآخرين»، وتشير مصادر متعددة إلى إن القضايا البيئية في العراق مرتبطة بفساد الدولة، وتتعارض مع مصالح المليشيات، والمسؤولين الحكوميين، يقول سلمان خير الله، الرئيس التنفيذي لمنظمة «حماة دجلة» غير الحكومية العاملة في مجال البيئة: «الحديث عن ذلك أمر خطير، ويعرض حياتك وحياة زملائك أصدقائك للخطر».
غادر خير الله بغداد في 2019 بعد أن احتجزته السلطات العراقية تعسفيًّا، وتطلب الأمر تدخل الأمم المتحدة للمطالبة بالإفراج عنه، ليفر بعدها من بغداد بعد فترة وجيزة، ويتجنب الإفصاح علنًا عن مكان وجوده. كما أُطلق سراح جاسم الأسدي، وهو أحد أبرز دعاة حماية البيئة في العراق، في 16 فبراير بعد تعرضه للخطف والتعذيب والاحتجاز من قبل جماعة مسلحة لأكثر من أسبوعين. وقد رفعت الحكومة العديد من الدعاوى ضد رعد حبيب الأسدي، وهو ناشط يترأس منظمة غير حكومية في الجبايش، بعد أن انتقد وزارة الموارد المائية خلال فترات الجفاف في عامي 2019 و2020.ويضطر العديد من ناشطي البيئة في العراق إلى مواصلة عملهم من خارج البلاد، أما القلة المتبقية فتواجه أشكالًا مختلفة من المضايقات.
وصرح رعد حبيب الأسدي عن سوء أوضاعه لمنظمة «هيومان رايتس ووتش» قائلًا: «لم أرتكب أي خطأ، لم أفعل سوى أنني شاركت معلومات عن الجفاف في الأهوار، وعاملوني بوصفي مجرمًا، لا يمكنني السفر أو فعل أي شيء لأنني يجب أن أذهب إلى المحكمة كل يومي اثنين وخميس. قال لي مسؤولو الوزارة: نريد تهدئتك».
أهوار العراق.. قمع الماضي وإهمال الحاضر وغموض المستقبل
نعود إلى الأهوار، حيث يجلس أحمد عواف، وهو مرشد سياحي يبلغ من العمر 54 عامًا، على قارب آلي يشق الماء عبر نهر الفرات، أشار عواف إلى قارب يمر يحمل أعوادًا من قصب الماء: «إذا لم يكن هناك ماء، فلا يوجد قصب». تستخدم هذه الأعواد في صنع المنازل التقليدية يدويًّا الموجودة بكثرة في الأهوار، ويرسو القارب على نقطة توقف بجوار جسر فولاذي حيث يشير عواف إلى علامات مكتوبة بخط اليد على الجسر: «هذا يمثل مترًا (ثلاثة أقدام)»، قبل أن يشير إلى ارتفاع أعلى قليلًا: «هذا مترين (سبعة أقدام)»، وفي الأوقات الصحية، يصل الماء إلى ما يقرب من سبعة أقدام.
لكن مع أوائل مارس (آذار)، لاحظ عواف انخفاض منسوب المياه إلى ثلاثة أقدام فقط. نتذكر أنه في عام 2015، انخفض منسوب المياه إلى 16 بوصة. وهذا الصيف، من المتوقع أن تصل درجات الحرارة إلى 125 درجة فهرنهايت (51 درجة مئوية)، مما يعني أن مستويات المياه يمكن أن تصل إلى ما دون تلك العلامة المدمرة.
ويذكر التقرير أنَّ شخصيات قوية في العراق حاولت إبادة الأهوار من قبل، في عام 1991، وفي أعقاب الحرب العراقية الإيرانية وحرب الخليج الأولى، شعر معارضو نظام صدام حسين أن الديكتاتور صار ضعيفًا وقاموا بانتفاضة ضده. لكن جهودهم باءت بالفشل، وفر العديد من الثوار إلى الأهوار حيث تمكنوا من الاختباء عن أعين النظام بين الممرات المائية المختلفة. ورد صدام بعنف بالغ، ووفقًا لتقارير من «برنامج الأمم المتحدة للبيئة» ومنظمة «هيومن رايتس ووتش»، أمر بتسميم البحيرات بالمواد الكيميائية السامة، وحرق القصب الذي استخدمته القبائل لبناء منازلهم، وحوَّل مسار اثنين من أكثر الأنهار ازدهارًا في التاريخ: دجلة والفرات.
وبقيت الأهوار في حقبة الجفاف إلى أن تولى دعاة حماية البيئة، بمن فيهم علوش، زمام الأمور بأيديهم في عام 2003 وأعادوا فتح المياه إلى المنطقة لفترة من الوقت، بدا الأمر وكأن الأهوار تستعيد بريقها، وعاد الناس وربُّوا مرة أخرى جاموس الماء ومارسوا صيد السمك. تُظهر مقاطع الفيديو في تلك الفترة قوارب تتنقل في مجاري مائية ممزوجة بنباتات خضراء مزدهرة. ولكن بعد ذلك عادت موجات الجفاف. لقد أعادت الفيضانات إحياء الأهوار في الماضي وربما تفعل ذلك مجددًا المستقبل. لكن الاعتماد على الفيضانات وحدها ممارسة زراعية عفا عليها الزمن، ويحتاج العراق سياسات مائية حديثة.
ويختتم التقرير القول إنَّ الأهوار جُففت عمدًا في عهد صدام، اليوم تتعرض للجفاف مجددًا بسبب الإهمال، والتركيز على موارد أخرى. ويقول عواف إنه لا يستطيع انتظار الفيضانات لإنقاذ الأهوار: «ربما تعود المياه، لكن لا يمكنني العيش اعتمادًا على كلمة (ربما).