يخشى العراقيون من عودة فوضى الميليشيات الموالية لإيران مجدداً إلى الساحة، بعد تسجيل حوادث متتالية خلال الأيام القليلة الماضية، الأمر الذي يضع حكومة محمد شياع السوداني أمام تحدٍ صعبٍ للغاية، ما بين التحرك لكبح جماح حلفائه والإيفاء بما يصفه مراقبون بالاشتراطات التي أوصلته إلى السلطة أو غض الطرف عما يحدث.
خلال الأيام الثلاثة الماضية، تصاعد الحديث عن السلاح المنفلت، بعد أن قامت جماعة تابعة لإحدى الفصائل المسلحة بالاشتباك مع قوة من الشرطة الاتحادية في منطقة البو عيثة بالعاصمة بغداد، مخلفة جريحين من الأمن العراقي. وقيل إن الفصيل المسلح المتسبب بالاشتباك هو ميليشيات "كتائب حزب الله" إحدى أكبر الفصائل الموالية إلى إيران.
"البو عيثة" مجدداً
يرتبط اسم منطقة البو عيثة في بغداد، بأول اشتباك حقيقي بين حكومة رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي وميليشيات "كتائب حزب الله"، في يونيو (حزيران) 2020، إثر اعتقال ما سمي حينها بـ"خلية الكاتيوشا" التابعة لتلك الميليشيات، وما تلاها من اقتحام للمنطقة الخضراء شديدة التحصين في العاصمة من عناصر مسلحة موالية لطهران.
لكن مشهد الانفلات عاد للظهور مجدداً بإعلان خلية الإعلام الأمني في العراق، الثلاثاء، إن "الاعتداء وقع على مفارز أمانة بغداد والمفارز الأمنية المرافقة لها المكلفة بإزالة التجاوزات على الأملاك العامة في المنطقة المشار إليها ما أدى إلى إصابة شخصين بجروح طفيفة".
وبحسب بيان الأمن العراقي فإن "القوات بادرت إلى اتخاذ الإجراءات القانونية والتعامل مع هؤلاء وإلقاء القبض عليهم وإحالتهم إلى التحقيق وإزالة التجاوزات على الأراضي في منطقة البو عيثة الموجودة من دون وجه حق".
ولم تذكر الخلية الجهة المتجاوزة على القوات الأمنية، واكتفت بهذا البيان على رغم حديث نواب ومصادر أمنية عن أن المجموعة تنتمي إلى ميليشيات "كتائب حزب الله" الموالية إلى إيران.
ولعل ما يؤكد أن الجهة المعنية بالاعتداء تنتمي إلى تلك الميليشيات، هو أحاديث شخصيات مقربة من "الإطار التنسيقي"، الذي رشح السوداني لرئاسة الحكومة العراقية في 2022، عن أن الأرض التي استعادتها قوات الأمن "تعود إلى إحدى الفصائل التي تود توزيعها على عوائل الضحايا".
وقال المقرب من الإطار التنسيقي، حيدر البرزنجي، في تصريحات متلفزة، إن "مصادر معلوماتية من داخل أروقة الحكومة والأجهزة الأمنية وعناصر في كتائب حزب الله بينوا أن الموضوع يتعلق بأرض تم شراؤها لتوزيعها على عوائل ضحايا الفصيل المسلح".
وأضاف أن هناك روايتين لما جرى منها أن "أحد الموجودين استغل هذا الموضوع وذهب للاستعانة بالشرطة الاتحادية والبلدية، وجاءت القوة في محاولة لتجريف الأرض وحدث احتكاك ومشادة بين الطرفين".
وعلى إثر ما جرى، هاجم النائب المستقل في البرلمان العراقي، سجاد سالم، الحشد الشعبي من جديد، قائلاً في تغريدة على حسابه في "تويتر"، "كل الدعم لقواتنا الأمنية في مواجهة فصيل مسلح مستهتر بالدم والمال العام".
مطالب بالحماية
ولم تقتصر الأحداث التي أعادت الميليشيات الموالية لإيران إلى الواجهة عند هذا الحد، بل سبقت حادثة البو عيثة مطالبة النائب سجاد سالم، رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، بتوفير الحماية له إثر تهديدات تعرّض لها من قبل قائد إحدى الميليشيات التابعة إلى "الحشد الشعبي".
وكان سالم قد قال في مقابلة متلفزة في وقت سابق إن "الإطار التنسيقي" لا يمتلك ثقلاً في الشارع العراقي، موضحاً أن السلاح المنفلت هو المتسبب الأول في تفشي الفساد وحمايته.
وفيما وصف سالم ارتباط الحشد الشعبي بالقائد العام للقوات المسلحة بـ"الشكلي"، لفت إلى أن الحشد يمثّل "خطراً على التداول السلمي للسلطة". لكن تلك التصريحات دفعت قادة فصائل مسلحة ومنصات تابعة للجماعات الموالية لإيران للهجوم عليه، واتهمه القائد في الحشد الشعبي أبو تراب التميمي بالانتماء إلى تنظيم "داعش" الإرهابي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التميمي قال صراحة في بيان إن "الذين يعتبرون الحشد ليس لهم فإنهم أعداء العراقي"، فيما وصفه أيضاً بأنه "ممن استوعبته الأجندة الخارجية". وتابع "لولا الحشد لكنت نائباً في دولة داعش التي أرادت أن تحكم العراق، وتكون والياً لمدينة واسط ترتدي الثوب القصير".
ومنذ بيان أبو تراب، بدأت حملة واسعة من مناصري الميليشيات ومنصاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي في كيل الاتهامات إلى النائب سجاد سالم.
بدوره، أوضح سالم أن "هذه التهديدات والاتهامات تأتي بعد تصريحاتنا ومطالباتنا بمحاربة النهج الطائفي في البلد، وتشخيص التجاوز على المال العام، وظاهرة عسكرة المجتمع واستخدام السلاح، والتصريحات هي حق كفلها الدستور للنائب لممارسة مهامه وواجباته".
مفترق طرق
ويرجح مراقبون أن تكون عودة أنشطة الميليشيات مرتبطة بتصاعد الخلافات الداخلية بين أطراف "الإطار التنسيقي للقوى الشيعية" والذي يمثّل الكتلة المشكلة لحكومة السوداني، في محاولة لـ"تثبيت وجودها" مع تنامي الحديث عن احتمالية عودة نشاط التيار الصدري خلال الفترة المقبلة.
ويقول المتخصص في الشأن العراقي، أحمد الشريفي، إن حكومة السوداني باتت أمام مفترق طرق، إما الإيفاء بالاشتراطات الدولية التي أوصلتها إلى السلطة، أو الرضوخ لإرادة الجماعات المسلحة.
وأضاف الشريفي في حديث إلى "اندبندنت عربية"، أن الشرعية الممنوحة للحكومة العراقية من قبل المجتمع الدولي مشروطة بـ"تفعيل اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية مع واشنطن"، مبيناً أن هذا الأمر يفرض اشتراطات عدة عليها الالتزام بها أو مواجهة رفض دولي كبير.
ويبدو أن ما عجل من عودة نشاط الميليشيات الموالية لإيران بسرعة، على رغم استحواذها على السلطة بالفعل، هو "تشعب الخلافات الداخلية بين أطراف ائتلاف إدارة الدولة المشكل للحكومة"، بحسب تعبير الشريفي، الذي يشير إلى أن ما حدث في البو عيثة قد يمثل "شرارة قد تشعل فتيل أزمة كبيرة تتسبب بانهيارات جديدة في النظام السياسي".
ولفت إلى أن بقاء رئيس الوزراء العراقي في حالة من الوسطية بين الإرادة الدولية وحلفائه بات أمراً مستحيلاً، مبيناً أن السوداني "يميل بشكل تدريجي لتلبية المطالب الدولية على حساب حلفائه لعدم التسبب بانهيار الحكومة".
ويميل الشريفي إلى أن "بوادر تصعيد مقبلة"، خصوصاً أن ما يجري يتزامن مع حالة غليان في الشارع العراقي لم تتمكن الحكومة حتى الآن من استيعابه، معتبراً أن عدة عوامل تعقد مهمة الحكومة العراقية، في الفترة الحالية، لعل أبرزها تهيء التيار الصدري لاتخاذ خطوات تعيده إلى الواجهة من جديد.
واختتم حديثه بالإشارة إلى أن استمرار الإشكالات من دون حلول ستفرض على السوداني "التمرد على حلفائه من الميليشيات"، مشيراً إلى أن رئيس الحكومة بات يدرك أنها "لا تمتلك عمقاً جماهيرياً ولا رصيداً لديمومة بقائها في السلطة، فضلاً عن افتقارها الدعم الدولي والإقليمي".
كسر سبات الميليشيات
في المقابل، يرى المتخصص في الشأن العراقي مصطفى ناصر، أن الميليشيات لم تغب أساساً عن المشهد، بل اختارت خلال الفترة الماضية "الدخول في حالة من السبات" لتثبيت وجودها مرة أخرى بالدولة العراقية.
ويرى ناصر أن ما حصل في منطقة البو عيثة مثّل "كسراً لهذا السبات"، مشيراً إلى أن هذا الأمر كان متوقعاً خصوصاً أن تلك الجماعات المسلحة "لا تعرف إدارة شؤونها وفق الأسس المرسومة للدولة، وتعتقد أن تجاوزاتها على الدولة والقانون والأملاك العامة والخاصة لا يمكن المساس به، لا سيما من قبل الحكومة التي تدعمها".
ويربط مراقبون عودة نشاط الميليشيات إلى الواجهة مع الحديث عن تعديل وزاري قد لا يصب في مصلحة الجماعات المسلحة الموالية لإيران. ويعتقد الأكاديمي المتخصص في العلوم السياسية، هيثم الهيتي، أن ما حصل من سكون لدور الميليشيات، خلال الأشهر الماضية، لا يعني "إنهاء دورها في العراق"، مبيناً أن حالة الهدوء النسبية كانت نتاجاً لـ"المكسب الكبير الذي حققته من خلال تشكيل الحكومة".
ويضيف الهيتي "هذه القوى ستبقى متأهبة لاستعادة نشاطها الأمني والسياسي في اللحظات التي تشعر بها بأي تهديد أو منافسة على المغانم".
ولعل تزامن ما جرى مع الحديث عن تعديل وزاري يؤشر إلى احتمالية أن تكون الميليشيات قد بعثت برسائل إلى السوداني وبقية الأطراف تتبنى "عدم المساس بمكاسبها"، بحسب الهيتي، الذي يعتقد أن تراجع رئيس الحكومة عن فكرة التعديل الوزاري جاءت نتيجة ضغط الميليشيات.