بين تفاؤل إيراني وتأن مصري يبدو "المد" بين البلدين يوشك أن يصل إلى شاطئ تطبيع العلاقات الثنائية المقطوعة منذ 45 عاماً، لكن التجارب التاريخية السابقة تفتح باب احتمالات أن يعود الجذر الذي طبع صورة صلات البلدين طوال تلك العقود.
خلال الأشهر الماضية تتابعت إشارات التواصل بين البلدين، بدءاً من لقاء وزير الخارجية المصري سامح شكري مع نائب الرئيس الإيراني علي سلاجقة في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، على هامش مؤتمر الأمم المتحدة لأطراف اتفاق المناخ (كوب27) الذي أقيم بمدينة شرم الشيخ.
وفي الشهر التالي التقى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي "بشكل عابر" بوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، على هامش مؤتمر "بغداد 2" الذي أقيم في الأردن، وأعقب ذلك إعلان الوزير الإيراني أن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني اقترح إطلاق حوار مصري - إيراني.
وفي مارس (آذار) الماضي أحدث اتفاق تطبيع العلاقات بين السعودية وإيران تكهنات بقرب حدوث خطوة مماثلة بين القاهرة وطهران، عززتها تصريحات للخارجية الإيرانية على لسان المتحدث باسمها علي كنعاني، الذي وصف مصر بالدولة المهمة في المنطقة.
وأشار كنعاني إلى أن بلاده تؤمن بضرورة اتخاذ خطوات إيجابية لتحسين العلاقات، لكنه استدرك أنه "من الضروري أن نرى ما إرادة الطرف الآخر".
وتكرر الانفتاح الإيراني في مطلع مايو (أيار) الجاري بإعراب عبداللهيان عن أمله في أن تشهد العلاقات مع مصر تطوراً وانفتاحاً جدياً ومتبادلاً، مؤكداً أن العلاقات مع القاهرة بين أولويات سياسات إيران الخارجية، كما كشف عن وجود دول لم يسمها تبذل جهوداً وتشجع البلدين على رفع مستويات العلاقات الثنائية.
الوسيط الذي أشار له عبداللهيان تطرق إليه عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني فدا حسين مالكي، ذكر أن هناك مفاوضات جارية في العراق وستؤدي في المستقبل القريب إلى استئناف العلاقات وفتح سفارتي البلدين، بل إنه توقع أن يعقب تلك الخطوة لقاء بين الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ونظيره الإيراني إبراهيم رئيسي.
لكن ذلك التفاؤل الإيراني قابله رد مصري فاتر، إذ نفى وزير الخارجية المصري سامح شكري أن "ما تردد في الإعلام عن وجود مسار مصري - إيراني"، مضيفاً أنه "ليس له أساس من الصحة"، وذلك بعد نحو أسبوع من تصريحات الوزير الإيراني.
وأكد شكري أن علاقات البلدين مستمرة كما هي عليه، وأن بلاده تتابع سياسات طهران وعلاقاتها بدول الخليج، وفي وقت سابق قال شكري إن القاهرة تتابع التطورات بالمنطقة وفي إطار هذا التقييم ستتخذ خطوات "إذا رأت أنها تصب في مصلحتها ومصلحة أمنها القومي".
على رغم ذلك أرسلت مصر إشارة إيجابية إلى الجانب الإيراني بإقرارها مجموعة من التيسيرات للسياح الإيرانيين لزيارة أراضيها.
موقف متأن
يرى الخبير في الشؤون الإيرانية بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية محمد عباس ناجي أن الموقف المصري يمكن وصفه بـ"المتأني"، الذي يتصف بعدم التعجل في إدارة العلاقات مع إيران.
قال ناجي لـ"اندبندنت عربية" إن سلوك إيران لا بد أن يوضع في موضع الاختبار والتقييم بعد الاتفاق السعودي - الإيراني، لتقييم مدى استعداد طهران لتغيير سلوكها بالمنطقة والمساهمة في حل الأزمات مثل القضية اليمنية، التي وصفها بالاختبار الحقيقي للاتفاق الموقع في بكين.
وأضاف أن المطالب المصرية في رأيه لن تخرج عن المطالبة بعدم تدخل إيران في الشؤون الداخلية سواء المصرية أو للدول العربية، وأن تساعد في تحقيق الاستقرار بالمنطقة والتوقف عن دعم الميليشيات، إضافة إلى اتخاذ خطوات إيجابية في الملف الفلسطيني، مؤكداً أنه كلما كان هناك تغيير إيجابي في الرؤية المصرية للسلوك الإيراني ستتطور علاقات البلدين.
الرؤية المصرية للاتفاق السعودي - الإيراني ربطت بينه وبين مردوده على سياسات إيران الإقليمية، وهو ما بدا في البيان الصادر عن المتحدث باسم الرئاسة المصرية أحمد فهمي بعد ساعات من الاتفاق، الذي قال إنه "يشكل فرصة لتأكيد توجهها نحو سياسة تراعي الشواغل المشروعة لدول المنطقة".
وأشار إلى أن التوصل إلى اتفاق لتطبيع العلاقات مع إيران ليس سهلاً، وأن مراحل التوصل للاتفاق السعودي - الإيراني استغرقت عامين من التفاوض، كما أن التوافق حول بنود الاتفاق ليس عملية سهلة أيضاً كي لا يكون اتفاقاً هشاً يمكن خرقه بسهولة. كما وصف التصريحات الإيرانية حول قرب إجراء لقاء بين الرئيسين المصري والإيراني بأنها "مفرطة في التفاؤل".
الوساطة العمانية
لم يستبعد الخبير في الشؤون الإيرانية أن يكون ملف المصالحة بين طهران والقاهرة طرح خلال مباحثات السيسي مع سلطان عمان هيثم بن طارق خلال زيارته إلى مصر قبل أيام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولم تصدر تصريحات بشأن الملف الإيراني عقب الزيارة الأولى لسلطان عمان إلى مصر منذ توليه منصبه قبل أكثر من ثلاث سنوات، لكن من اللافت أن السلطان سيزور طهران الأحد المقبل، أي بعد خمسة أيام من مغادرته مصر، مما عزز من التكهنات بشأن دور عماني في تطبيع علاقات مصر وإيران، بخاصة أن مسقط تربطها علاقات وثيقة مع إيران وكانت وسيطاً في مراحل تطبيع علاقاتها مع إيران، وكذلك في الاتفاق النووي الإيراني مع الدول الكبرى الموقع عام 2015، وهي العلاقات التي وصفها عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية السفير رخا أحمد حسن بـ"الخاصة" بين السلطنة والجمهورية الإسلامية.
أنباء الوساطة العمانية عززها تقرير لصحيفة "ذي ناشيونال" الإماراتية نقلت فيه عن مسؤولين مصريين قولهما إن تبادل السفراء بين القاهرة وطهران يتم خلال أشهر على أثر وساطة السلطنة، كما قالا إنه تم الاتفاق من حيث المبدأ على لقاء بين الرئيسين السيسي ورئيسي.
كما ذكرت الصحيفة أن مصر وإيران أجرتا جولات من المحادثات في العراق لبحث القضايا العالقة، كان آخرها في وقت سابق من مايو الجاري، وهو ما يتناقض مع تصريحات وزير الخارجية المصري في منتصف هذا الشهر، وكذلك حديث لمساعد وزير الخارجية الإيراني مهدي شوشتري، نشرته صحيفة "خراسان" المحلية في الـ11 من مايو.
محاولات سابقة
لفت الدبلوماسي المصري السابق إلى أنه حدثت محاولات سابقاً لتطبيع العلاقات أبرزها في فترة التسعينيات من القرن الماضي، لكن الجناح المتشدد في النظام الإيراني دائماً ما كانت تفسد تلك المحاولات، مشيراً إلى أن وجود إبراهيم رئيسي المعروف بقربه من المرشد الأعلى علي خامنئي يعطي مؤشراً على وجود فرصة أكبر تلك المرة لنجاح المصالحة المصرية - الإيرانية، وأن أي اتفاق محتمل سيحظى بالرعاية والاستمرارية، كما أن تصريحات عبداللهيان حول مصر، الذي كان عضواً بالحرس الثوري تؤكد أن هناك "ضوء أخضر" من المرشد، وفق تصريحات حسن لـ"اندبندنت عربية".
وأرجع عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية النهج المصري الهادئ في التعامل مع المسألة إلى وجود بعض الأمور التي تحتاج إلى تفاهمات وتوضيح، على رغم النية الواضحة لاستئناف العلاقات وتبادل السفراء.
وضرب حسن مثالاً بطول الفترة التي استغرقتها مباحثات مصر وتركيا لحلحلة القضايا العالقة قبل إعادة العلاقات، مؤكداً أنه على الجانب الإيراني أن يتخذ خطوات إيجابية للإسراع بتسوية الملفات العالقة.
الوساطة العراقية
الدعوة إلى إطلاق حوار مصري - إيراني بدأت من رئيس الحكومة العراقية، كما تداولت تقارير صحافية إجراء محادثات في بغداد، على رغم نفي البلدين وجود تلك المباحثات.
وقال مدير المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية غازي فيصل إن السياسة الخارجية العراقية اتخذت منذ سنوات مواقف الحياد تجاه دول الجوار العربية وغير العربية مثل إيران وتركيا، مشيراً إلى لعب بغداد دوراً في التوصل إلى اتفاق تطبيع العلاقات بين الرياض وطهران.
وأضاف فيصل في تصريح خاص أنه في ذلك الإطار من المفيد أن يعمل العراق على تقريب وجهات النظر بين إيران والدول العربية، لكن وفق أسس ومبادئ التزام الجمهورية الإسلامية بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية بما يشكل تهديداً للأمن والاستقرار ويخلق الفوضى.
وأشار إلى أن الاتفاق السعودي - الإيراني فتح الطريق أمام تعاون اقتصادي وتفاهم سياسي دبلوماسي بين العرب وطهران، وبالطبع هناك أهمية كبيرة لدخول مصر في ذلك الملف، نظراً إلى أهميتها الجغرافية والسكانية والجيوسياسية.
ويرى فيصل أن إيران إذا استوعبت الدرس وتخلت عن نهجها المستمر منذ ثورتها قبل 45 عاماً المتمثل في سياسة تصدير الثورة والتدخل في الشؤون الداخلية حينها ستتحول إلى "دولة طبيعية" يمكن للدول العربية التعامل معها.
تحذير إسرائيلي
تترقب كثير من دول الشرق الأوسط والعالم مصير جهود التطبيع بين الدولتين صاحبتي الثقل الكبير تاريخياً وعسكرياً وسياسياً، ومن أبرز المتابعين إسرائيل، إذ حذر زعيم المعارضة ورئيس الوزراء السابق يائير لبيد من التقارب بين مصر وإيران، وقال عبر حسابه على "تويتر" إنه يتعارض مع المصالح الإسرائيلية والإقليمية.
الأستاذ المساعد في العلاقات الدولية بجامعة ميرلاند الأميركية مروة مزيد، ترى أن مصر ربما حريصة على أن تتخذ خطوات دبلوماسية بطيئة كي لا تلفت الأنظار إليها بشكل سلبي من الولايات المتحدة أو إسرائيل.
وقالت مزيد لـ"اندبندنت عربية" إن رصد سياسات مصر الخارجية منذ احتجاجات 2011 يوضح أن لها "استراتيجيات بعيدة المدى في المنطقة تتحقق من خلال حلفاء آخرين صاعدين مثل السعودية والإمارات، في ما يخص موقف القاهرة من تركيا، تنظيم الإخوان وليبيا وأخيراً سوريا، التي لم تدعم مصر فيها أياً من المعارضة المسلحة"، مضيفة أن مصر "تحدث هذه التغييرات الإقليمية لكن بشكل بطيء ومتأن".
وأوضحت أن التطبيع المصري الإيراني لا يبدو أنه سيتم في المدى القريب جداً، لكنها تعتقد أن هذه النتيجة ستحدث لاحقاً، متوقعة أن تلعب الصين دوراً في إقناع البلدين باستئناف علاقاتهما، لأن بكين ترى أن أهم دولتين تاريخيتين بالشرق الأوسط هما مصر وإيران، وفقاً لما ذكره أحد الأكاديميين الصينين في ندوة أخيراً بواشنطن.
وكشفت الأستاذ المساعد بجامعة ميرلاند الأميركية عن أن دبلوماسيين مصريين أكدوا لها أن الإيرانيين يبدون حريصين جداً ويدفعون بشدة وإلحاح لرجوع السفارات والعلاقات الدبلوماسية، بعد إعادة العلاقات مع السعودية التي ترى طهران أنها خطوة مشجعة لإعادة العلاقات مع مصر.
وقالت مزيد إن دور مصر حين يحدث مثل هذا التطبيع ربما سيكون هو "إعادة تأهيل للنظام الإيراني"، موضحة أن مصر تعطى نموذجاً ناجحاً لدولة ذات أغلبية مسلمة بها جيش دفاع قوي، لكن لا تصدر أيديولوجيات تخيف جيرانها وتمثل لهم تهديداً".
تاريخ العلاقات
طوال تاريخ العلاقات المصرية - الإيرانية ظلت حال الشد والجذب حاضرة بين البلدين، وتباينت بين توقيع اتفاق صداقة عام 1928 ثم مصاهرة بين العائلتين الملكيتين بزواج الشاه محمد رضا بهلوي من الأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق عام 1941، ثم تحولت العلاقة إلى العداء بعد إطاحة الملكية في مصر عام 1952، إذ أيد الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر تحركات رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق الذي دفع الشاه لمغادرة البلاد لفترة.
كما اختلفت سياسة البلدين في عديد من قضايا الشرق الأوسط، لكن التقارب عاد في عهد أنور السادات خلال سبعينيات القرن الماضي مع تحول مصر لتحسين علاقاتها مع المعسكر الغربي، واحتفظ السادات وبهلوي بصلات وثيقة ترجمت في استقبال الرئيس المصري للشاه المخلوع بعد الثورة الإسلامية عام 1979، على عكس دول كثيرة منها الولايات المتحدة رفضت إقامته بها، وأدى ذلك إلى إغضاب النظام الجديد في طهران، الذي كان سارع لقطع العلاقات الدبلوماسية مع مصر بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل في مارس 1979، وعقب اغتيال السادات عام 1981 أطلقت السلطات اسم قاتله خالد الإسلامبولي على شارع بالعاصمة ما تسبب في خلاف مستمر حتى الآن مع القاهرة.
وفي بداية التسعينيات من القرن الماضي بدأت بعض اللقاءات بين المسؤولين المصريين والإيرانيين في محافل دولية، ورفع مستوى التمثيل الدبلوماسي لبعثتي رعاية المصالح في البلدين إلى مستوى سفير، وأفرجت مصر عن الأرصدة الإيرانية في البنوك المصرية.
وكشف الرئيس المصري حسني مبارك عام 1992 عن تلقيه رسائل من نظيره الإيراني علي رفسنجاني لتطبيع العلاقات لكنه انتقد تغير الخطاب الإيراني بين الحين والآخر. وسنحت فرصة لتطبيع العلاقات عام 1996 لكن ضغوط المتشددين في إيران أجهضتها وأعلن وزير الخارجية حينها علي أكبر ولايتي اقتصار المباحثات على فتح مركز ثقافي وليس تبادل السفراء.
كذلك اقتحم متشددون مقر جمعية الصداقة المصرية - الإيرانية عام 1999 احتجاجاً على محاولات للتقارب بين البلدين، لكن الاتصالات استمرت وأثمرت عن لقاء بين الرئيسين حسني مبارك ومحمد خاتمي في جنيف عام 2003 هو الأول بين زعيمي البلدين منذ 25 عاماً، لكن ذلك لم يترجم عملياً لتطبيع كامل للعلاقات.
وشهدت العلاقات تحسناً ملحوظاً في عهد الرئيس السابق محمد مرسي، الذي كان أول رئيس مصري يزور طهران منذ عقود، لكنها كانت بغرض المشاركة في قمة مجلس التعاون الإسلامي، كما زار الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في أبريل (نيسان) 2013 القاهرة وقوبل بحفاوة رسمية، إلا أن ذلك لم يترجم لقرار رسمي باستئناف العلاقات الدبلوماسية، وعاد الجمود بعد إطاحة مرسي إثر ثورة الـ30 من يونيو (حزيران) 2013، باستثناء توجيه دعوة رسمية لرئيس إيران لحضور حفل تنصيب الرئيس عبدالفتاح السيسي عام 2014، الذي أناب عنه نائب وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان الذي يتولى رئاسة الدبلوماسية الإيرانية حالياً.