على مر العصور نال مرفأ العاصمة اللبنانية بيروت أهمية كبيرة، وفقاً لما جاء في عديد من التقارير القنصلية والدراسات التاريخية، وورد اسم المرفأ منذ القرن الـ15 قبل الميلاد في الرسائل المتبادلة بين الفراعنة والفينيقيين، وخلال العصر الروماني تطور إلى مركز تجاري واقتصادي.
ويعد مرفأ بيروت أحد المعالم التاريخية البارزة في لبنان، ويعود تاريخه إلى آلاف السنين، وطور على يد الحضارات التي نشأت في المنطقة، والدول التي حكمت لبنان لاحقاً، وذلك لأهداف تجارية وعسكرية، إذ اعتبر محطة مهمة لسلاسل الإمداد العالمية، نظراً إلى موقعه الجغرافي الاستراتيجي على ضفاف البحر المتوسط، مركز التقاء القارات الثلاث أوروبا وآسيا وأفريقيا، مما جعل من المرفأ ممراً حيوياً لعبور أساطيل السفن التجارية بين الشرق والغرب.
وتميز مرفأ بيروت منذ القدم بأنه من أصلح الموانئ لرسو السفن، وهو الميناء الذي تجد فيه المراكب الأمان في جميع الفصول. وكانت السفن ترسو قديماً داخله، فيضع أهل بيروت العاملون في المرفأ (الصقالات) وهي ألواح عريضة من الخشب، ليستعملها المسافرون جسراً للنزول إلى البر، وإنزال البضائع على الرصيف. أما السفن الكبيرة فكانت تقف في الصيف تجاه بيروت، في حين تضطر شتاء للالتجاء إلى "خليج الخضر" قرب الكرنتينا، أو عند مصب نهر بيروت.
موقعه ومساحته
يقع الميناء في الجزء الشرقي من خليج سان جورج على ساحل بيروت، شمال البحر الأبيض المتوسط وغرب نهر بيروت، على مساحة إجمالية تبلغ 1.2 كيلو متر مربع، نصفها منطقة حرة، وذلك ضمن خط طول 35 و57 درجة شرقاً، وخط عرض 35 و15 درجة شمالاً، مما يشكل نقطة الوسط بين ثلاث قارات أوروبا وآسيا وأفريقيا. ويتكون من أربعة أحواض مقسمة إلى 16 رصيفاً مع أرصفة جديدة لحاويات المياه العميقة، يتراوح عمقها بين 20 و24 متراً و16 رصيفاً وأربعة مستودعات للبضائع العامة وثلاثة مستودعات لعمليات التجميع وثلاثة مستودعات للسيارات ومستودع واحد للبضائع الحرة، إضافة إلى عدد من صوامع تخزين القمح، ويعمل فيه 639 موظفاً.
يعتبر مرفأ بيروت من أكبر الموانئ البحرية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، إذ يستوعب أكبر السفن الحديثة، ويضم عديداً من الشركات والبنوك، وتعد مراسي الميناء من مناطق الجذب السياحي، إذ أدرجت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية المرفأ كأفضل مكان للزيارة عام 2009.
تاريخه
أصبح مرفأ بيروت مركزاً للأسطول العربي الأول ولصناعة السفن الإسلامية، وذلك خلال العصر الأموي، لا سيما في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان. أما في حقبة الصليبيين فكان له دور مهم في التجارة البحرية بين الشرق والغرب، بخاصة بين بيروت والمدن الإيطالية. تعزز هذا الدور خلال العصر المملوكي عندما تحول الميناء إلى مركز تجاري يزوره حجاج الأراضي المقدسة، وأصبح مركزاً رئيساً لتجار التوابل.
في القرن الـ18 بدأت بيروت تحتل مكانة اقتصادية بارزة، وأصبحت أكثر مدن الساحل الشامي تجارة وسكاناً، بفضل مينائها وعوامل اقتصادية أخرى، وهذا ما دفع التجار الأجانب، لا سيما الفرنسيين المقيمين في صيدا، إلى مراسلة حكومتهم عام 1753 مطالبين بإرسال بعض التجار والصناعيين إلى بيروت وجوارها من بين الذين يفهمون في غزل القطن لتوجيه الصناعة والتجارة بأسلوب مناسب.
وبحلول نهاية القرن الـ19، أعيد بناؤه على يد العثمانيين. في الـ19 من يونيو (حزيران) 1887، منحت السلطة العثمانية امتياز الميناء لشركة "مرفأ وأرصفة ومخازن بيروت" (Compagnie du Port، des Quais et des Entrepots de Beyrouth)، وذلك لمدة 60 عاماً، انتهت عام 1947. وعزز الامتياز في ما بعد عندما حصلت الشركة على الحقوق لتخزين وحمل جميع البضائع العابرة، التي تمر عبر الجمارك.
وبحلول نهاية عام 1894 احتُفل بانتهاء الأعمال الإنشائية لتوسيع وتطوير الميناء، إثر تطوير الأحواض في المرفأ وانتشارها بين منطقتي رأس الشامية ورأس المدور (مناطق بالقرب من المرفأ). وافتتح المرفأ لاستيراد المواد الأساسية من دول العالم، وتصديرها عبر الداخل اللبناني إلى دول الشرق الأوسط. وبحلول عام 1900 أحضرت المطابع إلى المرفأ لتحفيز صناعة النشر، إذ أصبحت بيروت مركزاً للصحافة العربية، وملجأ للمثقفين الذين يرغبون في إحياء الثقافة والقومية العربية الحديثة، وبذلك تضاعفت أهمية هذا الميناء البحري.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول رئيس جمعية "تراثنا بيروت" سهيل منيمنة، الذي يعد من أبرز الشخصيات التي تجري أبحاثاً تاريخية حول المعالم العثمانية المهمة في لبنان في حوار صحافي، إن تاريخ مرفأ بيروت "يمتد لآلاف السنوات، إلا أن أبرز أعمال التعديل والتطوير التي شهدها، بالتالي دخوله مسار الخطوط التجارية العالمية جرت في عهود السلاطين العثمانيين"، مضيفاً أن "الدولة العثمانية قررت اعتباراً من عام 1880 إعادة تشييد وتأهيل مرفأ بيروت، وكان الهدف من ذلك تعزيز الصلات التجارية بين بيروت وإسطنبول، إلى جانب اعتبار بيروت مرفأ نموذجياً".
بعد نحو خمس سنوات من وقوع لبنان تحت الاستعمار الفرنسي (1920-1943)، وتحديداً في الـ20 من مايو (أيار) 1925، أصبحت "شركة مرفأ وأرصفة ومخازن بيروت" تعمل تحت إدارة فرنسية. وفي الـ13 من أبريل (نيسان) 1960 غير اسم الشركة ومنح امتياز لمدة 30 عاماً لشركة لبنانية تسمى "شركة إدارة وتشغيل مرفأ بيروت"، التي عملت على توسيع الميناء. وخلال عام 1976 توقفت جميع عمليات الشحن في الميناء لمدة تسعة أشهر خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، وتضرر جزء كبير من الميناء إثر وقوع أجزاء منه تحت سيطرة مختلف الميليشيات المسلحة. وأعيد بناء الميناء البحري والمنطقة المحيطة به بعد الحرب، وفي الـ31 من ديسمبر (كانون الأول) 1990 انتهى الامتياز الخاص بشركة "إدارة وتشغيل مرفأ بيروت"، وأصبح المرفأ تحت الملكية المباشرة للحكومة اللبنانية، وأسند تشغيله لشركة "هيئة ميناء بيروت" (GEPB) التي ما زالت تديره حتى الآن.
أهميته
على رغم وجود أربعة موانئ أخرى في لبنان وهي طرابلس وصور وصيدا وجونية، فإن مرفأ بيروت يعد بوابة رئيسة لدخول لبنان. ويعتبر هذا المرفأ ركيزة أساسية للاقتصاد اللبناني، إذ إنه يلعب دوراً أساسياً في عملية الاستيراد والتصدير، بالتالي تحريك العجلة الاقتصادية. ويتعامل مع 300 مرفأ عالمي، ويقدر عدد السفن التي ترسو فيه بـ3 آلاف و100 سفينة سنوياً، ويستقبل نحو 70 في المئة من حاجات لبنان.
تشمل الصادرات الرئيسة الحبوب والفواكه والخضراوات والصوف والأسمنت والسلع المصنعة الأخرى، فيما تشمل الواردات السلع الصناعية والمصنعة والأخشاب والحديد والمنتجات النفطية. ويعد المرفأ محوراً أساسياً للاستيراد والتصدير لدول أخرى كسوريا والعراق والأردن، كما يعد منفذاً بحرياً أساسياً للدول العربية الآسيوية.
يتعامل المرفأ مع شحنات حاويات كبيرة، إذ نمت حركة المرور فيه من 945 ألفاً و143 حاوية عام 2008 إلى مليون و229 ألفاً و81 حاوية عام 2019، ويعد ممراً رئيساً لكثير من عمليات التجارة الدولية. واحتل لبنان عام 2018 المرتبة الـ38 من أصل 171 دولة برصيد 47.17 نقطة، أما إقليمياً فاحتل المرتبة السادسة، وفقاً لمؤشر "الأونكتاد" (UNCTAD)، لتقييم موصولية خطوط الشحن البحري، وذلك في دليل على أن مرفأ بيروت كان من أفضل الموانئ أداء على مستوى العالم والمنطقة.
وبحسب وزارة الزراعة الأميركية، يستورد نحو 80 في المئة من إمدادات القمح في لبنان من المرفأ. وخلال فترة السنوات الـ13 التي سبقت انفجاره، زادت إيرادات الموانئ من 89 مليون دولار عام 2005 إلى 313 مليون دولار عام 2017 مسجلة زيادة سنوية بنسبة 11.1 في المئة، بينما زادت النفقات التشغيلية من 52 مليون دولار أميركي في 2005 إلى 128 مليون دولار أميركي عام 2017، مسجلة معدل نمو سنوي مركب بنسبة 7.7 في المئة، مما يشير إلى أن نمو الإيرادات يتجاوز النمو في نفقات التشغيل، مما يعني ضمناً ارتفاع الإيرادات.
إلى ذلك فإن المرفأ مزود بأحدث أجهزة التفريغ والتحميل، كما يوفر تسهيلات لمناولة معظم أنواع السفن، بما في ذلك البضائع العامة والحاويات وناقلات البضائع السائبة، ويؤمن أفضل الشروط للتخزين. وكان بدأ العمل بمشروع تأهيل وتوسيع المرفأ وإنشاء الحوض الخامس المخصص لاستقبال المستوعبات، الذي تصل حدوده حتى مصب نهر الكلب.
المنطقة الحرة
تبلغ مساحة المنطقة الحرة في مرفأ بيروت 81 ألف متر مربع، وجرى العمل على توسيعها لتمتد على مساحة 124 ألف متر مربع، بإنشاء مبان جديدة افتتحت في الـ12 من يوليو (تموز) 2007، وتتكون من أربعة مبان حديثة، منها ثلاثة صناعية هي الثانية والخامسة والسادسة، مساحة كل منها 4 آلاف متر مربع، ويحتوي كل من مبنى الخامس والسادس على 52 مستودعاً، فيما يحتوي المبنى الثاني على 38 مستودعاً. تم إنشاء وتصميم هذه المباني الثلاثة وفق أساليب متطورة، مما سهل نقل البضائع إلى المستودعات الصناعية فيها، وجهز كل مبنى بمصعدين لنقل البضائع التي يمكن أن يصل وزن كل منها إلى ثلاثة أطنان، وبطرق داخلية واسعة تسمح بحرية حركة الرافعات الشوكية.
وتحتوي المستودعات على أنظمة إضاءة منفصلة، وينطبق الشيء نفسه على الطرق، إذ جهزت الأخيرة أيضاً بأجهزة الكشف عن الحريق الإلكترونية، ودرجين للطوارئ في كل مبنى. أما المبنى الرابع فهو مبنى السوق الحرة ويحمل الرقم 3، وأنشئ على مساحة 2800 متر، وصمم بحيث يضم محال السوق الحرة.
الأهراءات
بنيت عام 1968 وافتتحت عام 1970 بتمويل من دولة الكويت، وكانت صوامع أهراءات مرفأ بيروت الأكبر في الشرق الأوسط، بحسب غابريال أسيون المهندس المدني الذي كان مديراً تقنياً للورشة خلال إنشاء الأهراءات من مكتب رودولف إلياس وشركة البناء التشيكوسلوفاكية "برومستاف" (Prumstav).
كانت تتألف من برج في الجهة الشمالية الغربية للمرفأ، تتصل به 14 خلية على ثلاثة خطوط بعلو 50 متراً، أضيفت إليها خليتان عامي 1967 و1977 (أي ما مجموعه 48 خلية)، بقي منها حتى اليوم 12 خلية، وقد بناها عمال سوريون ولبنانيون. وكان لها القدرة على تخزين 120 ألف طن من الحبوب، واستطاعت الاحتفاظ بمخزون لبنان الاستراتيجي من القمح. فبين عامي 1964 و1968 كان لبنان يستهلك سنوياً ما يقارب 311 ألف طن من الحبوب وينتج 60 ألف طن، مما أظهر حاجة كبيرة إلى التخزين.
وخلال تفجير المرفأ وعلى رغم تضرر بعض الصوامع، حمت الأهراءات بخلاياها السميكة النصف الغربي لمدينة بيروت، لكن في الـ31 من يوليو (تموز) 2022، بدأ انهيار خلايا الأهراءات، ثم انهارت أجزاء أخرى بشكل متتال، إلى أن سقطت ثماني خلايا في الـ23 من أغسطس (آب) 2022. واليوم هناك 12 خلية صامدة قابلة للتدعيم، وعرضت في نقابة المهندسين آلية لتدعيمها، بحسب آخر التقارير الصحافية.
تفجير المرفأ
نهار الرابع من شهر أغسطس 2020 انفجر في أحد العنابر وتحديداً العنبر رقم 12 ما يقارب 2750 طن من نيترات الأمونيوم، بعد أن كانت مخزنة لمدة ست سنوات بشكل خاطئ وغير آمن في مخزن لا يتمتع بالمواصفات المطلوبة، ويعتبر التفجير الثالث من حيث الكبر بعد تفجيري هيروشيما وناغازاكي، وشعر الناس به في كل أنحاء لبنان وسوريا وفلسطين والأردن وتركيا وقبرص. وسجله المقياس الجيولوجي في الولايات المتحدة كهزة مقدارها 3.3 درجة، ويعتبر أحد أقوى التفجيرات غير الطبيعية وغير النووية في التاريخ، حتى إن خبراء في مجال الأسلحة اعتبروا أن قوة الانفجار تعادل مئات الأطنان من مادة "تي إن تي" شديدة الانفجار مما يجعله يفوق بكثيرة القوة التفجيرية للسلاح الأميركي الفتاك المعروف باسم "أم القنابل"، وذلك وفقاً لموقع "بزنس إنسايدر".
وقتل الانفجار أكثر من 218 شخصاً، وجرح أكثر من 7 آلاف، وهجر نحو 300 ألف من سكان المدينة. ودمر زجاج مباني وسيارات المنطقة الشرقية من بيروت بالكامل، وكذلك في بعض أحياء بيروت الغربية.
وفي بيان لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" في أغسطس 2021، قالت إن الأدلة تشير إلى تورط مسؤولين لبنانيين كبار في الانفجار. ووفقاً لمديرة قسم الأزمات والنزاعات في المنظمة لما فقيه، "تظهر الأدلة بشكل كاسح أن انفجار أغسطس 2020 في مرفأ بيروت نتج من أفعال كبار المسؤولين اللبنانيين وتقصيرهم، إذ لم يبلغوا بدقة عن المخاطر التي تشكلها نيترات الأمونيوم، وخزنوا المواد عن سابق علم في ظروف غير آمنة، وتقاعسوا عن حماية الناس. وبعد مرور عام (حينها)، ما زالت جراح ذلك اليوم المدمر محفورة في المدينة بينما تنتظر عائلات الضحايا الإجابات".
دمر الانفجار أجزاء كبيرة من الميناء وبنيته التحتية، بما في ذلك معظم احتياطات الحبوب، ولحقت أضرار بالمدينة قدرت بنحو 15 مليار دولار. وأجبر ميناء بيروت على الإغلاق بسبب الأضرار الواسعة النطاق التي سببتها الانفجارات، مع إعادة توجيه البضائع إلى موانئ أصغر مثل طرابلس وصور. قبل الكارثة ووفقاً لتقديرات "ستاندرد أند بورز" العالمية، كان نحو 60 في المئة من واردات لبنان تأتي عبر الميناء.