قام تنظيم داعش بتدمير عددٍ من الكنائس في المنطقة (زيد العبيدي/ فرانس برس)
لا يتوقف سكان مدينة الموصل، ثاني كبرى المدن العراقية، شمالي البلاد، عن المطالبة بعودة جميع مكونات وألوان المدينة الاجتماعية التي خسرتها عقب اجتياح "داعش"، صيف عام 2014، ولا سيما مسيحيي الموصل الذين نزحوا إثر القمع الديني الذي تعرضوا له.
وشهدت الأشهر الماضية تنظيم عدة تجمعات ومبادرات لسكان الموصل، يوجهون رسائل فيها إلى سكان المدينة الذين ما زالوا نازحين للعودة إليها، ولا سيما المسيحيين الذين يصفهم عضو مجلس أعيان الموصل أحمد الحمداني بأنهم "ملح المجتمع الموصلي".
ورغم جهود الإعمار المتواضعة في الموصل، خصوصاً المدينة القديمة التي ما زالت مناطق واسعة منها على نهر دجلة عبارة عن ركام وقنابل غير منفجرة وعلامات تحذير من الدخول إليها، إلّا أن ثمة علامات إيجابية يبعثها المجتمع الموصلي مجدداً، تتمثل بعودة قسم من العائلات المسيحية إلى المدينة، قادمين من أربيل ودهوك وبغداد، حيث منازلهم ودكاكينهم.
وكان "داعش" قد اقتحم الموصل قبل تسعة أعوام، في يونيو/ حزيران 2014، وعمد إلى تدمير معالم المدينة التاريخية، من بينها أقدم كنائس المسيحيين، واستغلال أخرى كمراكز ومقرات له، بالتالي أُلحِق الضرر بنحو 30 كنيسة، ولم يُرمَّم منها إلّا عدد قليل بجهود ذاتية من قبل أفراد من المسيحيين جمعوا تبرّعات من أجل هذا الغرض.
نشوان إيليا بهنام جقماقجي (52 عاماً)، أحد العراقيين المسيحيين الذين عادوا إلى الموصل ويعمل حداداً منذ 30 عاماً في دكان ضمن سوق الحدادين الشهير بالمدينة، حيث صناعة السكاكين وأسياخ الشي والمساند والمشغولات اليدوية الحديدية المختلفة التي تعلمها من أخواله، كما يقول.
غادر جقماقجي الموصل مع عائلته في يونيو 2014، بعد احتلال إرهابيي "داعش" المدينة، واستقر في أربيل ضمن إقليم كردستان، وظل في المدينة نازحاً لحين استقرار الأوضاع مجدداً في الموصل عقب تحريرها وطرد المسلحين منها.
يقول في حديث إلى "العربي الجديد": "عدت إلى المدينة مع عودة الحياة إلى منطقة باب السراي، حيث يقع سوق الحدادين، وفتحت دكاني بعدما رممته بمساعدة أصدقائي وجيراني في المهنة".
من جهته، يقول عضو مجلس أعيان الموصل أحمد الحمداني إنّ "إعادة ترميم المجتمع الموصلي لا تقلّ أهمية عن ترميم المدينة وإعمارها، إن لم تكن أهم". ويضيف، في حديث إلى "العربي الجديد"، أن الموصل لا يمكن تخيلها من دون وجود هذا التنوع الديني والثقافي المتجانس الذي عرفت به منذ آلاف السنين، وهذه الحقبة المظلمة ليست الأولى التي تمر بالموصل عبر التاريخ وستتجاوزها بكل تأكيد.
فيما دعا الناشط المدني ذنون عثمان الحديدي مسيحيي الموصل إلى العودة للمدينة بالقول: "اشتقنا إلى أيام كان أهل المدينة فيها بلا نقصان"، ويطالب الحديدي الحكومة في بغداد بالاستعجال في عمليات دفع التعويضات المقررة لسكان المدينة حتى يرمم الجميع منازلهم ويعودوا إلى الموصل وضواحيها، خاصة بلدات سهل نينوى ذات الأكثرية العربية المسيحية.
وكان بطريرك الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية في العراق، الكاردينال لويس ساكو، قد لفت في حديث سابق لـ"العربي الجديد"، إلى أنّ السبب الرئيسي لاستمرار نزوح آلاف الأسر المسيحية من نينوى وعاصمتها الموصل، يعود إلى هيمنة الجماعات المسلحة وغياب الإعمار في تلك المناطق، محذّراً من أنّ تلك المليشيات والعصابات "تمثّل خطراً على المجتمع العراقي ككلّ، وعلى المسيحيين بصفتهم أقليّة".
وإذ أكّد ساكو أنّ "الحكومات العراقية لم تسعف المسيحيين بإعمار مدنهم وكنائسهم كما ينبغي"، رأى أنّه يجب على "الحكومة والمنظمات الدولية تقديم المساعدات لإعادة إعمار البلدات المسيحية".
تجدر الإشارة إلى أنّ البابا فرنسيس زار العراق في مارس/ آذار 2021، ولاقت زيارته ترحيباً شعبياً واضحاً في البلاد، وقد تنقّل ما بين بغداد والنجف (وسط)، وذي قار (جنوب)، وأربيل (شمال)، إضافة إلى الموصل وسهل نينوى في محافظة نينوى المنكوبة (شمال).
وقد ساهمت الزيارة في لفت الانتباه إلى الثراء والتنوّع في المجتمع العراقي، إلى جانب تسليط الضوء على ما يعانيه المسيحيون في البلاد كما غيرهم من مكوّنات الشعب العراقي. وكان أمل المسيحيين أن تستغلّ الحكومة العراقية هذه الزيارة لإنقاذ أوضاعهم في البلاد، إلا أنّ أيّ تطوّر لم يحدث.
يُذكر أنّ السنوات التي أعقبت الاحتلال الأميركي للعراق (2003)، شهدت حملات هجرة واسعة لمسيحيي البلاد الذين توجّهوا إلى بلدان مختلفة بسبب عمليات التنظيمات الإرهابية وجرائم الاستهداف والتضييق التي شاركت فيها مليشيات مسلحة.
ويُقدَّر عدد هؤلاء الذين غادروا البلاد بعد ذلك العام بأكثر من مليون مواطن. وتطالب قوى وجهات مسيحية فاعلة في العراق حالياً بإخراج الفصائل المسلحة التي تسيطر على مناطق عدّة في سهل نينوى، إذ إنّ وجودها عامل عدم استقرار، ولا يشجّع على عودة أهل المناطق إليها، وهم من الأغلبية المسيحية.