حقّق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اختراقا مهما خلال قمّة حلف شمال الأطلسي أخيرا، يتمثّل في إعادة وضع بلاده على الخريطة الأطلسية بوصفها دولة أساسية في الحلف منذ انضمامها إلى عضويته قبل 70 عاما، نظرا إلى أنها تمتلك مزايا أهلتها لمكانة خاصة. وأهم ما تتحلى به موقعها الجغرافي الاستراتيجي، جارة لروسيا وإيران والعراق وسورية، تقع على عدة بحار تشكّل عقدة مواصلات بحرية وبرّية وجوية بين أوروبا وآسيا، وتربطها علاقاتٌ ذات طبيعة خاصة مع دول آسيا الوسطى. وهي صاحبة اقتصاد قوي ينمو سريعا، وبنى تحتية حديثة ومتطوّرة، وطاقة بشرية شابّة لا تمتلكها أيٌّ من دول الحلف أو الاتحاد الأوروبي. كما تتمتع باستقرار سياسي وسط منطقة مضطربة تعاني من الحروب الأهلية والديكتاتورية. وتشكّل الانتخابات التشريعية والرئاسية في مايو/ أيار الماضي مؤشّرا مهما إلى قوة النموذج التركي، الذي تجاوز أكثر من امتحان صعب في العقدين الأخيرين، وخصوصا محاولة انقلاب عام 2016، الذي كان يهدف إلى تقويض الديمقراطية. وبالإضافة إلى ذلك، تمتلك ثاني أكبر جيش في الحلف، الذي استعاد دوره بعد الحرب الروسية على أوكرانيا.
تحظى تركيا، من الناحية النظرية، بكل حقوق الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي، غير أن ما تتميّز به من خصوصيات يؤهلها لمزايا تفضيلية عديدة على المستويات الأمنية والعسكرية، والطرف الذي يحول دون تمكينها من مكانة أفضل هو الولايات المتحدة، القوّة الأكبر في الحلف، التي تقف وراء القرارات ذات الطبيعة الاستراتيجية، وبرز أكثر من خلاف خلال العقد الأخير، منها ما يخصّ حصول أنقرة على طيران حربي أميركي متطوّر وأنظمة دفاع جوي، وبعضها الآخر يتعلق بدعم مباشر في سورية لإقامة منطقة للاجئين الهاربين من عُنف النظام، والحادث الذي يشكل محطة مهمة إسقاط الدفاعات التركية عام 2015 طائرة روسية مقاتلة قرب الحدود التركية السورية، وهدد ذلك بنشوب حرب تركية روسية. وفي ذلك الحين، طلبت أنقرة مساندة من حلف شمال الأطلسي على أساس المادة الخامسة من ميثاقه، إلا أن واشنطن لم توافق، وانعكس ذلك الموقف السلبي من إدارة الرئيس الأسبق بارك أوباما على موقف تركيا من التدخّل العسكري الروسي في سورية في سبتمبر/ أيلول 2015، والذي غيّر مجرى الأحداث لصالح النظام السوري، الذي كان على وشك السقوط بدعم تركي لمقاتلي الفصائل السورية المسلّحة التي اقتربت من دمشق.
كرّس الحلف جهده العسكري لمنع روسيا من تحقيق انتصار عسكري في أوكرانيا، وأنفق أكثر من خمسين مليار دولار. ويتبيّن كل يوم أن الهدف ليس حماية أوكرانيا فقط، بل تعزيز قوتها قاعدة أطلسية مستقبلية. ولا يسري هذا المبدأ على دولة ذات موقع استراتيجي للحلف مثل تركيا، بسبب السياسة الاستقلالية التي تنتهجها أنقرة، وتواجه من جرّائها تمييزا من الأطلسي والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، الذي جمّد البحث في عضوية تركيا، البلد المرشّح منذ نصف قرن، رغم أن مسيرة الانضمام كانت تسير بخطواتٍ على أساس دفتر شروط قائم على التفاوض بين الطرفين حتى عام 2000، حين انتقلت تركيا من صفة المرشّحة إلى المؤهلة، وبعد ذلك، دخلت العملية مسارا من التباطؤ والتسويف، حتى أعلن الاتحاد الأوروبي تعليق المفاوضات عام 2018 بذريعة عدم إحراز تقدّم في مجال حقوق الإنسان واحترام سيادة القانون، في حين أن الخلفية الفعلية لهذا الرفض تكمن في الفيتو اليوناني والموقف من قبرص، التي ارتضى الاتحاد الأوروبي ضمّ شطرها اليوناني واستبعاد شطرها التركي في تمييز واضح، بدل أن يضع ثقله من أجل تسويةٍ سياسيةٍ على أساس توحيد الجزيرة في دولة كونفيدرالية تحظى بموافقة المكونيْن اليوناني والتركي.