قبل الحرب في سورية عام 2011، كان المواطن السوري حين يسافر إلى دولة ما يجد ترحيباً وودّاً في بلادٍ كثيرة من قبل أهلها، حيث كانت شعوب غير قليلة تحمل صورةً عن السوري المثقف المتحضّر صاحب الأخلاق، أما اليوم فقد امّحت هذه الصورة في دولٍ عديدة، ليصبح منبوذاً ومرفوضاً من قبل غالبية سكان الدول الأخرى.
فما سبب هذه الصورة التي استبدلها الناسُ عنّا؟ هل لأننا بهجرتنا شكّلنا ضغطاً على حياتهم ومعيشتهم، وقاسمناهم بعض خيرات بلادهم؟ أو هل لأنّنا نافسناهم في فرص عملهم بعدما عُرفَ عن السوريين أنهم يرضون بأجورٍ أقلّ من غيرهم، فصار صاحب المهنة يستبدل عماله أو موظفيه من البلد نفسه بعمالٍ سوريين؟ أو هل لأنّ السبب سياسيٌّ، وبات لكلّ فردٍ موقفٌ من الدولة السورية يُعامل السوريين على أساسه؟
أحياناً أشعر بأنّ أفراد الشعوب الأخرى كانوا يريدون منّا استشارتهم بالموقف السياسي الذي يجب أن نتخذه ليتوافق مع رغبتهم ويرضوا عنّا… وهل يمكن إرضاءُ الجميع!؟
لو أردنا أن نقف على قصصٍ تتعلّق بالعنصرية أو نبذ الفرد ورفض الآخر، لوجدنا كثيراً منها، ولكنني توقفتُ عند ريماس (12 سنة) التي عادت مع أسرتها قبل عام من لبنان. روت لي بعض الأحداث التي مرّوا بها هناك عن معاملة اللبنانيين لهم، سواء سلباً أم إيجاباً؛ فتحدثت بدايةً عن سكنهم في المخيم قائلةً: "هناك عمل والدي بالزراعة في البيوت البلاستيكية التي يملكها أحد اللبنانيين. ومرّةً احتجنا إلى بعض الباذنجان كي نتمّم طبختنا، فأرسلتني أمي لأحضرها، قطف لي أبي بعضها لأحملها عائدة إلى أمي. حينها شاهده صاحب العمل وصرخ به غاضباً، ثم تطوّر الأمر إلى مشاداتٍ كلاميةٍ وشتائم بينهما. فقط لأننا أخذنا بعض الثمار من الأرض التي يعمل بها أبي".
تنتقل ريماس إلى مرحلة ثانية قائلة: "بعد مدّة انتقلنا للسكن في أحد المنازل، وهناك بدأت أختي ذات السبعة عشر عاماً تعمل في تنظيف المنازل. وفي إحدى المرّات طلبت من صاحبة المنزل التي تعمل لديها إذناً كي تعود باكراً إلى البيت لأنّ أمي مريضة، لكنها لم ترضَ رغم توّسلات أختي، فقرّرت أختي العودة رغم ذلك، لكن المرأة بدأت بالصراخ عليها وتهديدها إن خرجت فسوف تشتكي للأمن وتحضرهم إلى منزلنا كي يسجنوها، ومع ذلك عادت أختي إلى المنزل. وحين أخبرنا جيرانَنا من اللبنانيين بما حدث، وقفوا إلى جانبنا وطمأنونا بألا نقلق، وأنهم سيدعموننا إن جاء الأمن إلينا ويحلّوا المشكلة. أختي لم تعد إلى العمل بعدها في ذاك المنزل، والمرأة لم تحضر الأمن أيضاً".
الرجل الفرنسي المعتزّ بلغته لم يستطع تقبّل سماع لغة مغايرة للغته، وأظهر بقسوة موقفه الرافض للآخر غير الأوروبي
تكمل ريماس في حادثةٍ أخرى: "في أحد الأيام خرجت لشراء الخبز من السوبر ماركت، وحين دخلت أحد المحلات للمرة الأولى وطلبت شراء الخبز، ردّت المرأة بحدّة: ليس لدينا خبزٌ لكم أنتم السوريون الشحاذون!".
كانت ريماس تروي بمسحة حزن هذا الرفض والإهانة اللذين تعرّضوا لهما، حتى لم يحتملوا المزيد من الضغوطات فعادوا إلى سورية.
يبدو أنّ العنصرية تظهر في البلدان المتحضرّة والمتحرّرة أكثر من البلدان النامية التي تشغلها صعوبات حياتها عن موضوع احتقار الآخر.
كثيرون تابعوا الفيديو الذي انتشر عبر الإنترنت للطالبة حفصة عبد الرحمن، ذات الأصول الأفريقية، حين أُعلنَ اسمها لاستلام شهادتها في مدرسة أوروبية وامتنعت مديرة المدرسة عن تسليمها لها بعدما خرجت الطالبة مؤديةً بعض حركات الرقص الخاصة ببلدها لتعبّر بها عن فرحتها بالنجاح. فهل رفضت المديرة تكريمها بسبب عدم سيرها باستقامة واتّزان كما تريد، أم لأنها أشارت إلى أصولها الأفريقية باعتزاز على أرض أوروبية؟
روى لي أيضاً صديقي العراقي يوسف، الذي يقطنُ في باريس، أحد المواقف التي مرّت معه حين كان في المقهى مع صديقه الأريتيري، الذي يعيش في إيطاليا، ونظراً لعدم وجود لغة مشتركة بينهما سوى العربية جلسا يتحادثان بها، وفجأة اقترب منهما رجلٌ فرنسي خمسيني غاضباً ومحتجّاً، وقال لهما: لمَ لا تتحادثان بالفرنسية؟
أجابه يوسف: "صديقي لا يعرف إلا اللغة العربية، ولا شأن لك بأيّة لغة نتحدث، ثم إننا لسنا في مؤسسة رسمية حتى تُفرَض علينا لغة معينة".
حين فهم صديقه الأريتيري فحوى الموضوع، خاطبه بإنكليزيته الضعيفة أنه لا يتحدث سوى العربية والإيطالية، فاحتجَّ الفرنسي مباشرةً: "لا! لا تتحدث الإيطالية إنها لغة الفاشيين!".
أثار الموقف استياء الشابين كثيراً، لا سيما الشاب الأريتيري الذي شعر بحدّة رفضه في هذا المجتمع، لا سيما أنه ذو بشرة داكنة، وهو يعرف مدى التمييز العنصري الذي يتعرّضون له في أنحاء العالم كافة.
ما مشكلتهم مع حقوق المواطن السوري، هل يعتبرون أنّنا لا نملك حقوقاً، أو لا نستحقها، أو لا يجوز أن يُروَّج عنّا أنّنا نحصل، ولو على بعض حقوقنا؟
الرجل الفرنسي المعتزّ بلغته لم يستطع تقبّل سماع لغة مغايرة للغته، وأظهر بقسوة موقفه الرافض للآخر غير الأوروبي.
لم يكن هذا الموقف الوحيد الذي تعرّض له صديقي العراقي. فمؤخراً حين أراد إرسال بعض أجور عملي، كوسيطٍ بيني وبين الجهة التي كنت أعمل معها، سألتْهُ موظفة البنك في باريس ذات الجنسية التونسية عن سبب معرفته بي، وأجرت تحقيقاً مزعجاً معه حول ذلك، وحول سبب إرسال النقود، وحين أخبرها أنها حقّي من عملي، وصوّر لها عملي في مجال الثقافة والكتابة، لم يعجبها الأمر ورفضت كتابة كلمة حقوق أو مستحقات أو أجور في الحوالة، بل حسمت قائلةً: "سأكتب أنها مساعدة لها!".
لم أفهم ما مشكلتهم مع حقوق المواطن السوري، هل يعتبرون أنّنا لا نملك حقوقاً، أو لا نستحقها، أو لا يجوز أن يُروَّج عنّا أنّنا نحصل، ولو على بعض حقوقنا؟
رفضَنا الناس في دولٍ شتى فقط لأننا سوريون، وخرجت جذورهم العنصرية إلى السطح دون مقاومة، واعتبرونا عبئاً عليهم في أشياء كثيرة. مع أننا في سورية احتضنا عرباً من عدّة بلدانٍ حين اندلعت الحرب لديهم، ولم نعاملْهم بنفورٍ، بل أذكر أنّنا كنّا نجيب ببشاشة عن تساؤلاتهم أو طلبهم للعون حين تهجّروا إلى بلدنا في الماضي.
ترى هل هناك حلولٌ للعنصرية لدى الشعوب؟ ومن هو المسؤول عن انتشارها؟ هل هم الأفراد أنفسهم نتيجة التربية العائلية، أو بيئة المجتمع هي من تعزّزها، أو هي الحكومات من تروِّج لها بطريقة غير مباشرة وتغرسها في نفوس شعوبها لغايات مختلفة؟