تسامُح شعوب عربية إسلامية مع الأنباء عن الذي يحصل في الصين والهند من قتل لمسلمين لأنهم مسلمون، والتنكيل بهم من سلطات هذين البلدين، واضطهادهم في السلوك اليومي والقوانين، في مقابل تشدّد ردة الفعل تجاه حرق فرد أو حفنة من الأفراد لا يمثلون إلا قلة قليلة جداً من مجتمعَي السويد والدنمارك نسخة من المصحف، يقدّم فكرة عن مدى تعلق مجتمعاتنا بالرموز والعاطفة وابتعادها عن الواقع. حرق المصحف وتمزيق أوراقه يجسّدان الرمز والعاطفة، فهذه تصرّفات تافهة واستفزازية لأتباع دين المليارَي إنسان، لكنها، في النهاية، تبقى رمزية، لا يسيل منها دم ولا تحتجز حرية ولا تنتهك إنسانية، تبقى مجرّد حرق لا يعني شيئاً إلا بمقدار ما يخترع له المعنيّون أهميةً، ويصوّرون أنفسهم ضحيةً لهذا الحرق الذي لولا لهاث الإعلام وراء "التريند"، لمرّ مرور الكرام، ولما كان الحارقون قد حرقوا أصلاً. أما ما يتعرّض له ملايين من مسلمي الصين والهند، فإنما هو عين الواقع، هو الحقيقة التي لا رمزية فيها. هناك، قتلٌ حقيقي لا مجازي، وملاحقة وتعذيب وحرق بشر لا كتب. لكن فظائع مثل هذه قليلا ما تثير قلقاً ولا حماسة عند مسلمين عرب كالتي تفجّرها رؤية أحدهم يقف شبه وحيد في استوكهولم أو كوبنهاغن، ويحرص على وجود وسائل إعلام وكاميرات هواتف ليشعل ناراً في نسخة من كتاب المسلمين.
ردّة فعل شعوب عربية حيال الفعل الرمزي، بالغة الواقعية: حرق سفارة السويد في بغداد، أي محاولة قتل، واعتداء مسلح على منظمة إنسانية دنماركية في جنوب العراق من سخرية القدر أنها ليست سوى "المجلس الدنماركي للاجئين"، وجزء كبير من اللاجئين في العالم، كما هو معلوم، مسلمون.
الإساءة الرمزية هنا تُقابل بمحاولة قتل، أما القتل في الهند والصين فلا يقابل حتى برد فعل رمزي. التفسير الأولي والسريع للهوّة التي تفصل ما بين ردود فعل شعبية عند مسلمين عرب إزاء الحالتين السويدية ــ الدنماركية من جهة، والصينية ــ الهندية من جهة ثانية، يفيد بأن التحريض الديني ــ الثقافي ــ السياسي على الغرب عندنا يحصد نجاحاتٍ تلد نجاحات، إلى درجة أن تصبح محاولة قتل دنماركيين يغيثون لاجئين مسلمين عملاً جهادياً. جدير في هذا السياق تذكّر التدخّل العسكري الأطلسي (رمز الغرب المسيحي في أدبيات كارهي الغرب) لإنقاذ مسلمي البوسنة والهرسك وكوسوفو من مجازر صربٍ "مسيحيين للغاية"، مبرّرات جرائمهم كانت تتصدّرها خرافات الحفاظ على نقاء الأرض الصربية المسيحية، بما أن "كوسوفو قلب صربيا" كما تفيد عقيدة القوميين الأرثوذكس هناك. تدخُّل حلف "مسيحي" لإنقاذ مسلمين من مجازر مسيحيين يتم المرور عليه كأنه لم يحصل بالنسبة لحاملي لواء "يا غيرة الدين" ضد الغرب وثقافته وحرّياته وديمقراطيته وحداثته. أما أن تُرتكب الجرائم بحق المسلمين في بلدان غير غربية، كالهند والصين، أو عربية، فيصبح الموضوع "فيه إنّ"، يحتمل أن يكون وجهة نظر، وكأنه لا بد أن يكون المسلمون هناك ارتكبوا ذنباً ما لكي يُعاقبوا جماعياً. الجاني في الحالة الصينية ــ الهندية ليس غربياً، بل طيف كبير من مجتمعه ومن سلطته ومن أيديولوجياته مجنّد لمحاربة هذا "الغرب الكافر"، تماماً كحال كثر في مشرق العرب ومغربهم، ربما هنا يكمن هذا التساهل مع جرائم هذين البلدين. وإلا فما السرّ وراء هذا الصمت العربي الشعبي حيال ما يتعرّض له مسلمو الهند والصين؟ إن كانت حكومات البلدان العربية عاجزة عن التصرّف دبلوماسياً وإصدار موقف حقيقي نتيجة خشيتها على مصالحها مع بلدين هما ثاني وخامس أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم، فماذا عن الشعوب؟
في الأسئلة أعلاه، لا دعوة إلى حرق أو تظاهر أو قتل أو استنفار أو انتقام أو كراهية، بل مجرّد تحسّر على أنه يمكن لحكام غير غربيين، شرقيين بوذيين أو هندوس، أو مسلمين عرب، أن يستبيحوا حيوات ملايين المسلمين، لكن ليس لغاضب أو لوضيع أو لمهووس أو باحث عن شهرة في الغرب أن يستعرض مهاراته في فضح كم أن مجتمعاتنا هشة وقابلة للاحتراق بشعلة نار يتم إيقادها على بعد آلاف الأميال.