تنتهي رسمياً بعد غد الاثنين ولاية حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، بعد 30 عاماً من السلطة. وهو الحاكم الخامس للمصرف المركزي اللبناني، منذ تأسيسه في عام 1963. مجرّد لحظة توقف: عمر المصرف المركزي اللبناني 60 عاماً، نصفها كان في عهدة سلامة. وإذا كان الحكّام الأربعة السابقون قد رافقوا عهوداً ذهبية ودموية في لبنان، فإن الخامس كان شاهداً على عصر اختزل كل العصور اللبنانية بعد حرب لبنان (1975 ـ 1990). مرحلة السلام الشكلي التي صمتت فيها المدافع لمصلحة انضواء غالبية أمراء الحرب في هيكلية الدولة، ومرحلة الحروب الإسرائيلية المتلاحقة على البلاد، التي توقفت فعلياً في عام 2006، بعد عدوان تموز. واكب سلامة مؤتمرات دولية لدعم المالية اللبنانية، وتابع بعدم اكتراث مرحلة انتفاضة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، ثم حقبة الانهيار المالي العظيم، واضمحلال "المعجزة المصرفية اللبنانية". رُفعت ضده دعاوى في الداخل والخارج، وقيل عنه إنه "حامل أسرار" كل قرش دخل جيب أصغر من تعاطى الشأن العام في بيروت، وما أكثرهم في بلدٍ لا تصل مساحته ولا حجمه الديمغرافي إلى أصغر أحياء الصين أو الولايات المتحدة.
يطوي سلامة أوراقه الاثنين المقبل، ويغادر إما إلى منفى داخلي طوعي، أو منفى خارجي حيث لا يطاوله أحد. وبعد سنوات وعقود، يتحوّل إلى تاريخ يرويه كل طرفٍ بحسب أهوائه، إذ لا تاريخ موحّداً يجمع اللبنانيين، منذ اندلاع حرب 1975. في الحالتين، لن يحاسبه أحد، إذا وجبت المحاسبة، ولن يدعوه أحدٌ إلى سداد حساب طويل مع اللبنانيين، إن اقتضى ذلك. مثله مثل أي أمير حرب تلطّخت يداه بالدماء، جالسا على عرش السياسة يوزّع التنظيرات والرؤى على اللبنانيين، و"جماعته" تظنّه منقذاً لا مثيل له.
لكن أمراً ما تجب ملاحظته. هناك شيءٌ ما يتغيّر في بيروت، أكبر مما يظنّه بعضهم أنه تحت السيطرة. الأمر يشبه زمن نهايات الحرب اللبنانية لمن عاشها. في مطلع عام 1990، كانت الحروب الداخلية المسيحية ـ المسيحية والشيعية ـ الشيعية في أوجًها، ولم يكن يظنّ من كان قاطناً فيهما أن هناك أفقاً لنهاية ما لهذه الحروب. في نهايات العام نفسه، انتهى كل شيء. حصل التحوّل الإقليمي الكبير في الاجتياح العراقي للكويت، ثم تسلّم النظام السوري حكم لبنان. هدأت البنادق وبدأت التحوّلات السياسية تتسارع لتُفرز واقعاً جديداً، انتهى في عامي 2004 ـ 2005، قبل اغتيال رئيس الوزراء ، النائب في حينه، رفيق الحريري. بعدها، كان واضحاً لكلّ من يراقب لبنان من بعيد أن هذه البلاد واصلة لا محال إلى تغيير كبير، لا لأسبابٍ ما أو مخطّطات، بقدر ما أن حتمية التغيير الناجمة عن تشابكاتٍ متعدّدة وبدء نشوء فراغاتٍ في مواقع عدة، فرضت نفسها لملء الشواغر.
في السنوات الأربع الماضية، وعكس حرب لبنان، لم يكن أحدٌ، لا في الداخل ولا في الخارج، على استعداد للتسبّب باندلاع حربٍ أهلية جديدة، غير أن انتفاء التوافق وغياب اللعبة الديمقراطية وضعا لبنان على فوّهة تغيير هائل، يعمل بقوة هادئة لا هادرة. سلامة، الموصوف بأنه "أقوى رجل في لبنان"، يخرج بهدوء، معبّداً الطريق لجحافل ستلحقه، لأن لا شيء يدوم، خصوصاً في بلد كلبنان قائم على توازنات عرفية أكثر من استناده إلى دساتير وقوانين مكتوبة. القانون والدستور في لبنان مجرّد أداتين لتعلّم كيفية خرقهما، والشعور بالبهجة حيال ذلك.
المشكلة الحالية في لبنان أن من يظنّ نفسه قوياً لم يعد كذلك، ومن يعتقد أنه في منأىً عن تحوّلات آتية ليس كذلك أيضاً. سلامة كرة ثلج ستكبر؟ لم لا، فكل شيءٍ يدلّ على أن مغادرته منصبه مجرّد بداية لنهاية ستتلاحق، لا نهاية بحدّ ذاتها. الحقبة الجديدة آتية، كالغيوم المبشّرة بقدوم الشتاء أو كالبراعم الممهّدة للصيف. سلامة يغادر الاثنين، منتظراً "رفاقا" لن يتأخّروا في الانضمام إليه.