تخرج علينا مواقع التواصل الاجتماعي العراقية، كل يوم تقريبا، بحوادث تؤكّد أن الفاصل ما بين القانون والفوضى في العراق خطُّ ضبابي يمكن أن يتلاشى في أي لحظة، وأن كلام الحكومة عن تطبيق القانون والتعامل الحازم تجاه الخارجين على القانون مجرّد كلام وهواء في شبك.
أهانت سيّدة، الأسبوع الماضي، ضابطاً في الشارع، ومزّقت رتبته العسكرية، واستعانت بنائبٍ في البرلمان، يبدو أنها على علاقه به، من أجل تخليص نفسها من التوقيف القانوني، وبسبب الإحراج الذي سببه تداول هذه الحادثة/ الفضيحة على مواقع التواصل، ردّت وزارة الداخلية ببيان حازم، لكنّ "السيدة" استمرّت بنشر صورها على صفحتها الشخصية على "إنستغرام"، باسترخاء تام يليق بالذين يستقوون بنفوذ المسؤولين في الدولة، لا بالدولة نفسها!
هناك قائمة طويلة من الأشخاص الذين يتصرّفون في العراق ما فوق نطاق الدولة، ولا تنطبق عليهم القوانين العامة التي تسري على المواطنين الآخرين. وهؤلاء هم السياسيون ومسلحّوهم وعوائلهم وأقاربهم ومحظياتهم والعاملون عندهم، فهؤلاء هم ملّاك البلد من ذوي الدماء الزرقاء، الذين يستعينون بالقانون، عند الحاجة، وبالفوضى والخروج على القانون في أحيانٍ أخرى.
تعطّلت منظومة تجهيز الطاقة الكهربائية في أغلب مناطق العراق يومين، وسادت حالة من التذمّر في الشارع العراقي، أما المسؤولون فصاروا يتبادلون الاتهامات، وكلٌّ يرمي بالذنب على الآخر، غير أنّ المذنب الأكبر، في واقع الحال، غياب الدولة، وهو غيابٌ تحت أعين الزعماء والقادة السياسيين وأسماعهم، يعرفونه ويدركونه، منذ عشرين سنة. وليس الأمر عندهم متعلقا بصعوبات "استحضار" هذه الدولة الغائبة، وإنما بغياب الإرادة عندهم لقيامها، لأن الدولة القوية العادلة تعني تقليصاً كبيراً ومؤلماً لكثير من امتيازاتهم التي تنتعش في الظلّ المعتم للفوضى وضعف القانون.
أقطاب النظام السياسي، وبسبب خوفهم على امتيازاتهم، لا يريدون الاستجابة لاشتراطات وزارة الخزانة الاميركية بشأن التحويلات المالية "الشرعية"، وإصلاح النظام المصرفي العراقي، ويتّهمون أميركا بأنها تحارب العراق، بل صار بعضهم يغرّد على مواقع التواصل بضرورة استبدال الدولار، عملة التداول العالمي، بعملاتٍ أخرى، الصينية أو غيرها. متجاهلين الصعوبة العملية لإجراء من هذا النوع. ومتجاهلين حقيقة أنّ المشكلة لا تتعلق بالتضييق الذي تفرضه أميركا على التعاملات المالية غير الشرعية، وإنما بالعوق الاقتصادي العميق في العراق الذي يفرض الحاجة المستمرّة للحماية الأميركية. وأن لا علاقة لأي إصلاح حقيقي بالعنتريات التي تسوّقها للجمهور العام أن الخلاص هو بمواجهة أميركا، وإنما بالإجراءات العملية الضرورية التي يمكن أن يتّبعها صانع القرار العراقي، كي يتخلص النظام الاقتصادي والمصرفي العراقي من الحاجة إلى مظلّة الحماية الأميركية.
لا تريد الطبقة السياسية الحاكمة مواجهة هذه التحدّيات، لأنها تعني ضرورة اتّباع خطوات لتدعيم سلطة الدولة، وهذا بالضد من مصالحها التي تنتعش بالحقّ الحصري للاستفادة من الفوضى.
العراق اليوم هو ربما من البلدان القليلة التي لا يستفيد فيها المواطن من الخدمات المصرفية الإلكترونية، فلا بطاقات فيزا ولا تعاملات بنكية من خلال تطبيقات الهواتف المحمولة، ولا سهولة في التحويل واستلام الحوالات المالية. كما أن النظام الإداري فيه على حاله منذ الثمانينيات، فالأوراق والأختام والتصوير الضوئي للمعاملات، وطلب "صحّة صدور" ودوران المواطن على أكثر من غرفة في الدائرة الحكومية لاستحصال التواقيع والأختام، من أكبر الكوابيس التي يمرّ بها المواطن العراقي. وفي تضاعيف هذه الحركة المضنية في بنايات متهالكة لا خدمات فيها تنتعش الرشاوى، ويضيع حقّ المواطنين ويتكبّدون خسائر مالية كبيرة في سبيل إتمام معاملاتهم بشكل أصولي. وبسبب غياب إجراءات الحكومة الإلكترونية، ما زالت هناك أسماء لموظفين وهميين كثيرين في الدوائر الحكومية والأمنية، تذهب رواتبهم إلى جيوب السياسيين وأتباعهم، وهي مبالغ بملايين الدولارات.
تحتاج هذه الطبقة السياسية إلى القانون، لكنها تحتاج الى الفوضى بالقدر نفسه، وتتوهّم أنها قادرة على مسك لجامي القانون والفوضى، والموازنة بينهما في الطريق الوعرة، وهذا مجرّد وهم، إذ ستأكل الفوضى كلّ شيء في النهاية.