قاسم عبد: الحياة وتفاصيلها موزعة على شارعين في لندن وبغداد

آخر تحديث 2023-08-05 00:00:00 - المصدر: العربي الجديد

وثائقي جديد يصنعه العراقي المقيم في لندن قاسم عبد، بعنوان "أعيش هنا، أتنفس هناك". إنّه تاسع فيلم وثائقي له منذ حصوله على الماجستير من معهد السينما في موسكو. الفيلم، المنتمي إلى سينما المؤلّف، بلا حوار ولا موسيقى ولا ممثلين أو شخصيات تتحرّك أمام الكاميرا بقصدية الأداء أو الإيحاء. مدّته 80 دقيقة، ويمتدّ زمن وقائعه إلى 12 عاماً، يحاول عبد فيها اكتشاف خفايا الحياة في شارعين، أحدهما في بغداد أقام فيه سابقاً، والثاني في لندن، لا يزال يُقيم فيه إلى الآن.

بعد عام 2003، شارك قاسم عبد، مع المخرجة العراقية ميسون الباجه جي، في تأسيس "كلية السينما والتلفزيون المستقلّة" التي تخرّج منها معظم المخرجين الذين يعملون الآن في السينما العراقية. له "وسط حقول الذرة الغريبة" و"ناجي العلي: فنان ذو رؤيا" و"حاجز سورد" و"حياة ما بعد السقوط" و"همس المدن" وغيرها. بمناسبة جديدة، التقته "العربي الجديد".

"أعيش هنا، وأتنفّس هناك" بلا سيناريو ولا حوار. الصورة متسيّدة. ماذا أردت قوله فيه؟

الفيلم وثائقي تجريبي، يتابع جريان الحياة وتفاصيلها في شارعين، في لندن وبغداد. إنّه متفرّد وشخصيّ جداً، ومختلف، ينتمي إلى السينما الشعرية، الخاصة والذاتية، التي تعتمد على السرد البصري لا السرد القصصي. هذا نوع سينمائي لا يهتمّ بالبناء التقليدي للفيلم، أي بداية ـ وسط ـ نهاية، ولا يهتمّ اهتماماً كبيراً بالحوار والحبكة والصراع بين قوى متضادة، لأنّ بناءه وإيقاعه الداخلي يعتمدان على إثارة المشاعر والأفكار، عبر لغة الصورة السينمائية، وتجسيد حالات وتجارب إنسانية، أكثر من رواية قصص بالأطر التقليدية.

قوّة المكان في هذين الشارعين تعكس ملامح مدينتين مختلفتين. لكلّ شارع حياته الخاصة، ومزاجه وهويته الثقافية ووتيرته وضوضاؤه وصمته.

سبب اختياري هذين الشارعين أنّهما جزءٌ من حياتي الشخصية ومن تكوين نفسي. جزءٌ من الذاكرة القديمة والذاكرة الجديدة. وُلدت في بغداد، وترعرعت وعشت كلّ طفولتي وشبابي فيها. في الوقت نفسه، أعيش في لندن منذ أكثر من 40 عاماً، ومعظم ذكرياتي كبَالغٍ، وحياتي المهنية، مرتبط بهذه المدينة.

رغم تشابه أنشطة بشرية يومية عدّة بين الشارعين، هما جزء من مدينتين تختلف إحداهما عن الأخرى تماماً.

لندن مدينة فريدة من نوعها. كلّ من يأتي للعيش فيها، يعتبرها إحدى أعظم المدن على وجه الأرض. أحبّ لندن، لكنْ لروحي جذورها في بغداد التي أحبّها أيضاً. أحد أهدافي في إنجاز هذا الفيلم كامنٌ في إظهار الجانب الإنساني لعلاقات العراقيين بعضهم مع بعض. الروح الإنسانية للشارع البغدادي، بعيداً عن الأنباء المحزنة والدمار والصراعات السياسية. شخصياً، أشعر بالفخر لكوني جزءاً من هاتين المدينتين.

إضافة إلى التركيز على الإنسان والمكان في أفلامك، تهتمّ دائماً بالأشياء والتفاصيل الموجودة في المكان؟

تجذبني الأشياء التي يتغاضى عنها الناس غالباً، مع أنّها موجودة حولهم. أشياء تملك صمتاً وضجيجاً، وربما لغة خاصة بها. إنّها في تحوّل دائم، وعندما نتأمّلها بهدوء، نرى طاقة وسحراً كثيرين يكمنان فيها. اكتشاف حيوية الأشياء وتفاصيلها واستخدامها كعنصر في بناء الفيلم، يمنحني سعادة كبيرة. في فيلمي هذا، هناك شجرتان: واحدة في لندن أمام نافذتي، لا أعرف ما اسمها، لكنّي أسميتها "شجرة للفصول الأربعة". أعتبرها صديقاً مُقرّباً لي، لأنّها جزءٌ من الحياة المحيطة بي يومياً. كما أنّها شاهد على التاريخ اليومي لحياتي في الشتات، وعلى مزاجي الخاص ووحدتي. وعندما سقطت وتحطّمت، في نهاية الفيلم، حزنت عليها حزناً شديداً، كأنّي فقدت فرداً من عائلتي. في بغداد، النخلة في الحديقة الأمامية للبيت تُشبه صديقة أخرى. في كلّ مرة أرجع إلى منزلنا البغدادي بعد غياب، أحسّ كأنّها تنتظرني، وأشعر كما لو أنّها جزءٌ من أسرتي البغدادية. زرعها والدي عندما كنتُ شاباً يافعاً، وكبرت معنا. عندما كانت تمرض، كان والدي يعتني بها، ويجلس إلى جانبها كأنّها أحد أفراد العائلة. التنقل بين هاتين الشجرتين يخلق إيقاعاً شعرياً كأحد أشكال الرمزية والاستعارة. التكرار في العودة إليهما باستمرار، في أوقات مختلفة من الزمن، يخلق نوعاً من التناغم الغنائي، وحسّاً إنسانياً مشتركاً بين الإنسان والمكان.

مدّة الفيلم تتعدّى الساعة. مع انحسار الموضوع والتعليق، ألا يُسبّب ذلك مللاً لدى المُشاهد؟

لا يوجد فيلمٌ يُرضي كل الأذواق. كلّ فيلم يُرضي مجموعة معينة من الناس، وتقبّله يعتمد على الاستجابة الشخصية للمُشاهد، ورؤيته المتفرّدة. إذا كان المُشاهد من محبّي سينما القصص والحكايات، التي تعتمد على الحبكة والصراع والأكشن والحوارات السردية، ففيلمي "أعيش هنا وأتنفّس هناك" ليس هكذا لأنّه تجريبيّ ونخبوي وهادئ وحسّي، وذو نزعة تأمّلية لجريان الحياة اليومية. إنّه تأمّل ذاتيّ لتوثيق لحظات هاربة من الزمن، أو ومضات من الحياة تُثير مشاعر معينة، أو حكاية بلا حكاية. لا يعتمد على الحوار كوسيلة تواصل، بل على لغة الصورة التي يمكن فهمها في أي مكان في الدنيا، إذا توفّرت عند المُشاهد ثقافة وذوق سينمائيان. هذا النوع من الأفلام يمنح المُشاهد مساحةً للمشاركة الحيوية في تأويل ما يراه على الشاشة وتفسيره. تكوين مفهومه الخاص عن الفيلم ربما يختلف، أو حتى يتجاوز مفهوم المخرج نفسه. هذا حدث مع فيلميّ "همس المدن" و"حاجز سردا"، المنتميين إلى الأسلوب نفسه في المعالجة الإخراجية. صراحة، ما يهمّني أنْ أعيش مغامرة عمل فيلم، ومتعة هذه المغامرة وألمها. كلّ ما يأتي بعد ذلك، بالنسبة إلي، تفاصيل، سواء شاهد الفيلم شخصٌ واحد فقط، أو مليون شخصٍ. وكما يقال: "الناس في حبّهم مذاهب". مرة، كتبتُ للطرافة، أو ربما إنّها الحقيقة: أصنع أفلامي بنفسي. أصوّرها لأعوام. أربط المشاهد، وأدقّ على أبوابٍ، أعرضها في ساحة المدينة. لا أحد يرغب في المشاهدة، لأنّ التفاهة "بوستر" المدينة. تذوّق السينما الوثائقية في العالم العربي لا يزال محدوداً، لأنّنا لا نملك تقاليد سينما وثائقية حقيقية، ولا ثقافة فنّ مُشاهدة هذا النوع من الأفلام.

أغلب أفلامك تبدو كأنّها أفلام ذاتية. كأنّك تحاول فيها سرد جانبٍ من سيرتك الشخصية، عبر المكان.

هناك قول متأثّرٌ به كثيراً: "إذا لم تستطيع أنْ تكون ذاتك، فما فائدة أنْ تكون أي شيء، مهما كان". في حياتي كلّها، كنت مخلصاً لنفسي في كلّ ما أفعله. لم أحن رأسي لأحد. عملتُ الأفلام التي أحبّ. خسرت المال، وربحت السينما. على قلّتها، لا تُشبه أفلامي أفلام أحد غيري. تشبه حياتي، وحياتي عبارة عن تواصل وانقطاع في المدن القريبة والبعيدة. أصوّر غالباً في أماكن تقول شيئاً عن حياتي الخاصة، وعن الذاكرة المكانية، ورائحة المكان، واللحظة العفوية العابرة في حياتي، والمشاعر غير المترابطة، وإيقاع الأزمنة المتداخلة. المكان والإحساس به عنصران أساسيان من عناصر البناء الفيلمي عندي. إنّهما شخصيان وذاتيان للغاية. جميعنا نعرف أنّ القوّة الدافعة في الفيلم قصته التي تكون مركز الاهتمام المطلق لكلّ سينمائيّ. لكنْ، هناك قوة أخرى ربما تكون محور الفيلم في تطوير القصص وروايتها: المكان وقوّته. على المخرج أنْ يتعامل معهما لا كخلفية أحداث، بل كشخصية وطاقة في كشف الواقع وأحداث الحياة اليومية. هذا واضح في أفلامي السابقة "أجنحة الروح" و"حاجز سردا" و"همس المدن"، والآن "أعيش هنا وأتنفّس هناك". يُقال إذا كنتَ لا تعرف مكانك، فأنت لا تعرف نفسك. 

الـ"نوستالجيا" واضحة في هذا الفيلم.

ردّي بيتُ شعر لنزار القباني: "مواطنون دونما وطن... مُطاردون كالعصافير على خرائط الزمن".

منذ فيلمك الأول، وأنت منشغل بالأفلام الوثائقية. كلّ ما أنجزته من أفلام كان وثائقياً. ما سبب ميلك إلى هذا النوع؟

أسأل نفسي غالباً هذا السؤال، ولا جواب واضحا عندي. أحبّ السينما ككلّ، روائية وغير روائية. تجذبني السينما الوثائقية لأنّي أجد نفسي فيها أكثر حرية وصدقاً في التعبير عمّا أفكّر فيه ضمن الإمكانيات المتاحة لي. الفيلم، الروائي أو الوثائقي، سينما، ونجاحه وفشله يعتمدان على الحكاية الجيدة، القابلة للتصديق، وأهم مظاهر الصدق الاقتراب من الحياة. هذا الاقتراب يخلق للفيلم روحاً وتفرّداً خاصّين. الفرق بين الروائي والوثائقي يكمن، ربما، في منهج الملاحظة والرؤية واختلاف أساليب السرد وتقنياته. رغم أنّ النوعين يملكان حكاية وأحداثاً وشخصيات، الوثائقي مُفضّل عندي، لأنّه يعكس تفاصيل الحياة اليومية وشؤونها، والتعامل مع شخصيات حقيقية، أي مع الناس العاديين لا الممثلين، الذي يتصرّفون ويتحرّكون ويتكلّمون أمام الكاميرا بعفوية وتلقائية، كما يتصرّفون في حياتهم اليومية. كلّ شيء يعكس الواقع كما نراه في الحياة، بلا تزييف أو إيهام. الحقيقة، أنّ الحدود في السينما المعاصرة بين الروائي والوثائقي اختفت، فتقنيات الأفلام الروائية تجدها في بناء الفيلم الوثائقي، وتكنيك الأفلام الوثائقية وأساليبها تستخدم في الأفلام الروائية. المثل الأبرز "معركة الجزائر" للإيطالي جيلّو بونتيكورفو.