حب الفلسفة عبر عن نفسه لدى الشهيد كامل شياع في وقفات فكرية ظلت معدودة نسبيا الا انها كانت لافتة من جهة العمق وحرية الذهن وتعلقت بالعديد من القضايا الفكرية والسياسية التي حاول الخوض فيها بعيدا عن "المواقف الرسمية" او الحزبية التقليدية التي لا تعنينا هنا قدر اهتمامنا بمعرفة مدى استفادته من الفلسفة ومدى استفادتها منه.
هذا البعد الذي كان كامل شغوفا به لا سيما في لحظاته الحميمة، يكفي بذاته ليجعل من اغتياله في 23/8/2008، اكثر من مجرد جريمة ارتكبها قاتل مأجور بدم بارد وبسلاح كاتم للصوت مأجور هو الآخر ودميم، في لحظة كان قدر كامل شياع، المولود في 1954، قد تماهى طواعية مع العراق وكأنما الى الابد. لكن ذلك التماهي لم يكن خيارا طارئا لديه في أي وقت من اوقات الاحباط الجمعي لعراقيي المنفى قبل 2003، بل كان اشبه بقرار واع ومصيري في آن يسنده الادراك بأن التاريخ، وتاريخ العراق تحديدا، "يستغرق وقتا طويلا" قبل ان يزهر، وأن معنى المفاهيم لا يتحقق إلا بعد نهاية جولات التناقض والصراع، وأن المسألة في شكلها الملموس ذات قيمة وجودية (وتخص الفرد تاليا وحصرا)، رغم أن لها أبعادا اجتماعية وسياسية وثقافية ومصلحية تتيح للساعي نحوها تحقيق مراده" كما كتب قبل ايام من رحيله لصديقه الصدوق الكاتب والناقد العراقي المعروف حسين كركوش. وهو موقف لم يكف عن التعمق لديه متبلورا مع مرور الزمن ومستفيدا افضل استفادة من خزين معارفه الفلسفية الاولى ما يضع كامل شياع بين كتاب عراقيين معاصرين قلائل، ويساريين خاصة، جربوا محاولة بلورة افكار سياسية واجتماعية معاصرة واصيلة بغض النظر عن رأينا بها.
عبر حب الفلسفة كان تعرّفنا أحدنا على الآخر في لندن لأول مرة وذلك في مطلع عقد التسعينات الماضي وعشية انهيار الدولة الشمولية السوفييتية، وكنا، الشهيد كامل وأنا، تلميذي فلسفة قادمين الى عاصمة الضباب: هو من بلجيكا وانا من فرنسا، سعيا الى فرصة الكتابة، لا سيما المقالات الفكرية، في صحيفة عربية او اخرى، وكانت حرب "تحرير الكويت" قد وضعت اوزارها للتو، مع مشهد آلاف الجنود العراقيين المحترقين على ظهر عرباتهم بالنووي الأمريكي المنضّب لكن المحقون بالحقد الابدي البشع على بابل ينشر الفزع والقتل في كل مكان فيما نظام الدكتاتور مصاص الدماء صدام حسين ينجو بجلده كذبابة خبيثة زرقاء.
وفي وسط من أصدقاء عابرين جمعهم الانتماء السابق الى تجربة نضالية يسارية خائبة، وخاض بعضهم فوضى التدريس في الجزائر، بدا كامل أحد أكثرهم ثقافة فلسفية ورقةً وتواضعاً، وهذا قرب بيننا أكثر ربما بل سرعان ما انصرف القوم عنا ضجرين من انهماكنا في نقاش جاد عن الفلسفة وتياراتها في الغرب وكان غارقا للتو في حبها اكاديميا. كان طالبا في جامعة لوفان الكاثوليكية في بلجيكا آنئذ ويتردد على لندن حيث صحيفة "الحياة" التي نشرت له عدة مقالات واعدة أثار اهتمامي فيها أفقها المتجاوز لمحيطنا السياسي الرتيب. كنت انشر حينها في نفس الصحيفة، بشكل اكثر انتظاما، مقالات فكرية وسياسية ايضا تحمل نكهة هيغل وفولتير. وقد عزز صداقتنا غير التهريجية والحذرة تلك، توافقنا على منح الفلسفة أولوية مطلقة على الايديولوجيا بما فيها الماركسية ذاتها التي ألهمتنا الكثير. فقد صارت بيننا عدة رسائل الكترونية مركزة حملت احداها ملاحظة اطراء منه بدراسة لي فلسفية مطولة عن فوكوياما وهذياناته عن النظام العالمي الجديد، وهي التفاتة غير معتاد ورودها من الحزبيين الاقحاح المحيطين به لا سيما في ذلك الوضع الملبد بالظنون.
بعد سنوات شاركنا معا بمداخلات فكرية في ندوة حول "اشكالية السلطة في الفكر العربي الإسلامي" اقيمت في معهد الدراسات الشرقية والافريقية بلندن بمبادرة من الدكتور عبد جاسم الساعدي رئيس جمعية الثقافة العربية ومشاركة كتاب لامعين عربيا وعالميا من بينهم المفكرون حسن حنفي وابو يعرب المرزوقي وكمال عبد اللطيف والقامة السودانية الشامخة الدكتورة خديجة صفوت، وقدم كامل شياع محاضرة مهمة بعنوان (النص، السلطة والإيديولوجيا) فيما تناولت من جانبي "نقد نظريات الاستبداد الشرقي"، وكان المقرر ان تكون لأستاذنا الجليل الراحل د. حسام الدين الألوسي محاضرة حول "تاريخية السلطة والجذور الأسطورية للوعي الاجتماعي" لولا التعذر القاهر لسفره.
ومرة تحدثنا مليّاً، كامل وانا، عن عدد خاص كان يحمله في حقيبته من مجلة "لوفان" الفلسفية الفصلية الصادرة عن المعهد العالي للفلسفة في جامعة "لوفان" والتي تعتبر من بين اهم الدوريات الاوربية المتخصصة في الفلسفة، كرسته في نهاية صيف 1989 لجملة من الدراسات الجديدة تمحورت حول فكر نخبة من المفكرين المسلمين اشتهروا كفلاسفة من "الخط الثاني" وهم ابو حاتم الرازي وابو الحسن العامري ومسكويه وفخر الدين الرازي وابن خلدون. الا انهم بالمقابل، وعلى خلاف الكندي والفارابي وابن سينا وابن طفيل وابن رشد مثلاً، عرفوا كمفكرين كبار في ميادين اخرى اولاً ثم كفلاسفة لا سيما مسكويه وابن خلدون حتى ان مؤرخ الفلسفة المصري الراحل عبد الرحمن بدوي أفتى بانهم "ليسوا فلاسفة بالمعنى الدقيق لمفهوم الفيلسوف" بينما اعتبر نفسه فيلسوفا بكل هذا المعنى.
لقد كان شغف كامل شياع بالفلسفة منفتحاً وتعلقياً اذا جاز القول وجديدا وعميقا في ذات الوقت. لم يكن قد درس الفلسفة اكاديميا من قبل ولم يمر على تحديداتها التقنية ومصطلحاتها المهنية بل جاء اليها من الفكر السياسي على الأرجح، ومن الماركسية تحديدا، لكن بعاطفة صادقة وحماس ورغبة عارمة بحماية حرية الفكر والاختلاف رغم ضغوط سياسية وحزبية لا تحصى، فيما كانت لغته العربية تجمع بين الجزالة والحداثة وحب الدقة مستفيدا من افضل النماذج العربية في الكتابة الفكرية آنئذ الى جانب مهارات اسلوبية شخصية محضة. وحين علمت انه حصل لاحقا على شهادة الماجستير في الفلسفة من جامعة لوفان الكاثوليكية عن بحث بعنوان مثير ايضا هو "اليوتوبيا معيارا نقديا" ذكرتني على الفور بكتاب "يوتوبيا" لشهيد الفكر الكبير توماس مور برغم اختلاف الاحوال، عرض فيها كامل شياع فهمه الخاص لظاهرة اليوتوبيا كخطاب اجتماعي وفكري مستقل بذاته عبر مختلف المراحل التاريخية منذ عصر النهضة حتى وقتنا الراهن.
حواراتنا النادرة اللاحقة تموضعت قبل عام 2000 اجمالا، وأكدت لي ان هذا الباحث المتطلع الى الجمع بين الايديولوجيا والفلسفة يواصل التقدم نحو الاخيرة متحررا من الاولى بشكل ملموس. بيد انه ظل في اطار العمل البحثي رغم تمرد هنا وهناك. مقالاته النقدية في صحيفة "الحياة" اللندنية حملت بالمقابل صورة وافية نسبيا عن مدى استفادة كامل شياع من دراسة الفلسفة اكاديميا. اذ ان ميله الواضح نحو الفكر النقدي تعزز بل غدا احد العلامات البارزة في جهده الصحفي والكتابي بوجه عام. فقد شغله مثلا السجال بين المفكر الفلسفي السوري جورج طرابيشي ضد المفكر المغربي محمد عابد الجابري فكتب عنه مقالا مهما في 1997 كان واضح الميل فيه الى جانب طرابيشي ضد الجابري. ثم ناقش في مقال في نفس العام نزعة الأنسنة في الفكر العربي والاسلامي الكلاسيكي عبر عرض نقدي لكتاب "نزعة الأنسنة في الفكر العربي" للمفكّر الجزائري الراحل محمد أركون الذي، وهذا ما ابرزه كامل شياع، سلّط الضوء على طبيعة الممارسة الفكرية لدى مسكويه وسواه من فلاسفة زمانه "العلمانيين" اذا جاز القول. حيث يتناول الكتاب المسيرة الفكريّة لمسكويه المتوفي عام 421 هجرية، كمؤشر على ظاهرة ثقافية مبكرة في تراثنا، تمحورت حول الانسان واتخذته "نقطة وصول ونقطة انطلاق في آن معاً". هذا الجانب الانسانوي في مسكويه الذي قضى شطراً كبيراً من حياته في بلاط بني بويه خازناً للكتب وكاتباً وفيلسوفاً اخلاقياً، جذبنا جميعا الى الاعجاب بهذا "المفكر اليساري" بمعنى ما، لا سيما ان أهم ما اقترن باسم مسكويه هو انجاز معترف به لتأسيس نظرية في الاخلاق الانسانية، تتوسّل العقل والحكمة المكتسبة معياراً للأفعال والمقاصد والغايات. وكان يمكن لهذه النظريّة برأي أركون، والملاحظة لكامل شياع، أن تفضي نظرياً وعملياً إلى نوع من العلمنة والحداثة، لولا انكفاؤها السريع الذي يصفه اركون بأنه قدر تراجيدي يتولاه في ثنايا الكتاب باستقصاء تاريخي متعمّق. وبالطبع، فان الكلام على الأنسنة يعيد إلى الاذهان مباشرة الحركة الانسانية التي مثلت ثقافة عصر النهضة الاوروبي، ابتداءً من القرن الرابع عشر الميلادي، وتميزت بالتفاؤل بالانسان وبروح البحث والاكتشاف والابتعاد عن التقاليد "السكولائية" القروسطية. وثمة من هذه الناحية، كما يؤيد كامل شياع، تشابه غير عارض بين هذه وبين نزعة الأنسنة في الفكر العربي التي سبقتها بأربعة قرون، وهيأت لانفتاح على "العلوم الوافدة" ولعقلنة التفكير الديني ولتشجيع المعرفة العلمية وقيم الاخلاق والجمال.
وهي عقلنة ونزعة انسانية لا نشك ان الشهيد كامل كان قد وضعها في خططه او على الاقل طموحاته وهو يعود طوعاً الى بلاده لدعم شعبه الذي التي حطمه كل بطريقته ومهمته تحالف رباعي: القمع البعثي (1968-2003)، والحصار الدولي (1990-2003)، والاحتلال الأمريكي (2003-2011)، ولا وطنية أحزاب المحاصصة الحاكمة (2003-الى الآن).
فلقد عاد كامل شياع ونخبة معدودة من المثقفين العراقيين الى العراق فقط من اجل دعم شعبهم ميدانيا وخاصة من اجل الاسهام في بناء حركة ثقافية جديدة في بغداد وفق روئ علمانية متفتحة. وهو هدف يكتسب الى الآن اولوية اكثر من اي وقت مضى في رأينا رغم كونه مغامرة محفوفة بالاخطار والاتهامات. فبغداد هي مدينة الانسنة والعلمنة والعقل والحياة بامتياز. ومن هنا أهمية اعادة الاطلاع على ذلك العرض الذي قدمه كامل شياع لكتاب اركون اعلاه الذي يشير ايضا الى ان نزعة الأنسنة والعقلنة ظهرت في بغداد وان صعودها في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري تزامن "مع حكم البويهيين الذين أداروا الشؤون العامة وفق اعتبارات أقرب إلى السياسة منها إلى الدين". ويشير كامل شياع ايضا الى ان أركون يبني هذا التشخيص على ملاحظة أن ذلك العصر شهد "اضعاف هيبة الخلافة"، وازدياد "أهمية الدور الذي يلعبه العقل الفلسفي من أجل تجاوز الصراعات المتكررة الحاصلة بين الطوائف والمذاهب والعقائد والتراثات العرقية - الثقافية". ومع سقوط حكم البويهيين في منتصف القرن الخامس الهجري، على يد طُغرل بك السلجوقي، خفت بريق تلك النزعة الانسانية الأدبية والفلسفية الواعدة.
ويشدّد أركون هنا، كما لاحظ كامل شياع، على أن ضمور هذه النزعة ما كان ليحدث فقط بسبب ردّ الفعل الأشعري بل بتضافر عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية. وهذا الكاتب الشهيد لا يخفي اعجابه بالمنهج الخاص لمحمد أركون والقائم على اسناد أطروحته الاساسية عن تبلوّر نظرة انسانية في القرن الرابع الهجري، مقابل النظرة اللاهوتية السائدة، بمنهج تاريخي متطور سمح بانضاج قراءة غنية لفصل مهم من فصول تراثنا وتاريخنا، مبينا ان تلك القراءة لم تقف عند حدود موضعة أفكار مسكويه في سياقها الملموس، وتبيان جوانب القوة والضعف فيها، بل أسهمت - وإن بدرجة اقل - في اجلاء ملامح جيل من المثقفين الذين عاصروه. وفي تأكيد ان "لهم فضل تغيير مفهوم الكتابة الأدبية ليستوعب ابعاداً اجتماعية دنيوية واجناساً معرفية ونظرية" مشيدا بالاجتهادات المحفزة على التفكير التي توصل اليها محمد اركون لابراز أثر دخول الفلسفة على الثقافة النقلية التقليدية، وترابط لغتي البرهان والبيان في تشكيل خصوصية التفكير الفلسفي آنذاك، موظفا مقاربته لنزعة الأنسنة الكلاسيكية عند مسكويه وسواه من الفلاسفة المسلمين لتطوير مسعى معاصر لتجديد فكر ينتمي الى مشروع انساني مستقبلي.
بيد ان الفلسفة لم تكن الوطن الذي اختاره كامل شياع على الدوام بل الايديولوجيا وتاليا السياسة اي العراق بالمعنى المباشر، الوطن الذي سحبه وسحبنا سحبا الى احضانه في نهاية المطاف ضمن سيرورة طويلة نسبيا وتدريجية مع ذلك. وهكذا، فكلما ابتعد عن جامعة "لوفان" كلما ابتعد اكثر عن الفلسفة. لكن حبه للفلسفة، وللوفان ايضا، ظل قويا في الحالتين وحتى الرمق الاخير رغم خسارتهما المعركة نهائيا وتحولهما الى مجرد ذكرى مقارنة مع العراق اللاهب صيفا وشتاء وربيعا وخريفا لكنه يظل مع ذلك "وطن الأجداد ومنشأ الآباء ومهد اللغة وأرض المآل" كما كتب في عام 1997 خلال عرض لكتاب "نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق"، ليوسف رزق الله غنيمة، محاججاً ايضا بأن العراقيين شعب يسكنه التوق الى الحضارة، بمعنى الحرية والثقافة والعدالة، ولذا استبشروا خيراً بتأسيس الدولة العراقية الحديثة سنة 1920، لما عكسته من أمل كبير بوحدتهم كأمة على اختلاف مكوناتهم وأديانهم ومذاهبهم. فقد بدا ذلك التأسيس في أعينهم، أشبه برافعة عصر جديد تسوده المساواة والعدالة وقيم المواطنة، وساروا خطوات اولى مهمة نحو تحقيق ذلك المشروع الوطني التحديثي.. اما لماذا لم ينجحوا في اكمال بنائه فذلك بسبب عدم اقران تلك النزعة الوطنية التحديثية بالممارسة الديمقراطية الضامنة لتنظيم اختلافاتهم واحتواء صراعاتهم.. وهذا نكأ على الجرح ذاته.. اي كما لو انه كان يشير الى عودة العراقيين الى ارتكاب نفس ذلك الفشل في عام 2000 عندما تبنى قادة معارضتهم امكانية استبدال نموذج الدولة القمعية الشمولية البعثية بنموذج نقيضها، اي الفوضى، غافلين تماماً عن ان ذلك الاستبدال العشوائي لم ولن ينتج الا دولة عشوائية فاشلة وفاسدة لا سيما في بلد مبتلى بتركة نظام همجي لنحو اربعين سنة، وأعباء اكثر من حربين كارثيتين وايضا، وفوق كل ذلك، بحصار دولي مدمر وشهية خليجية واقليمية وحتى دولية وجدت فرصتها الذهبية لـ "الانتقام" من العراق معنويا اذا جاز القول.