وقّعت الشركة السعودية للصناعات العسكرية للتو اتفاقية استراتيجية مع شركة بايكار تكنولوجيز التركية لتوطين صناعة الطائرات المسيّرة في المملكة. تعكس هذه الاتفاقية إلى جانب الاتفاقيات الأخرى التي أبرمتها أنقرة والرياض على هامش الجولة الخليجية أخيراً للرئيس رجب طيب أردوغان الزخم القوي للعلاقات الجديدة التي تعمل تركيا على إقامتها مع السعودية ودول الخليج عموماً. مع أنّ الأبعاد الاقتصادية تأخذ الحيّز الأكبر من الاهتمام في التفاعل القوي بين تركيا والخليج، منذ أعادت أنقرة وكلّ من الرياض وأبوظبي إصلاح علاقاتهم، فإنّ الاهتمام الخليجي المتزايد بصناعات الدفاع التركية يتجاوز في الواقع المكاسب التجارية البحتة في عمليات مبيعات الأسلحة التركية إلى دول الخليج. إنه يعكس بشكل خاص كيف أنّ تركيا في طريقها إلى أن تُصبح شريكاً حيوياً لمنطقة الخليج في مجالات الأمن والدفاع.
تمكّنت صناعة الدفاع التركية، في السنوات الأخيرة، من جذب اهتمام العالم بشكل متزايد، لا سيما في صناعة الطائرات المسيّرة التي أثبتت كفاءتها في تغيير موازين صراعات عديدة في الأعوام القليلة الماضية، مثل حرب قره باخ الثانية بين أذربيجان وأرمينيا والصراع في ليبيا ودورها المؤثر في العمليات العسكرية التركية لمكافحة الإرهاب في شمال سورية والعراق. لذلك، لا يبدو الاهتمام الخليجي باقتناء الطائرات المسيّرة التركية والدخول في شراكات مع تركيا لتوطين صناعة هذه الطائرات، مستغرباً من منظور عسكري. لكنّه لم يكن في الوسع تصوّر هذا التنامي في مجالات التعاون الدفاعي بين تركيا وكلّ من السعودية والإمارات، لولا التحوّل الكبير الذي طرأ على علاقات هذه الدول منذ عامين. يُشير ازدهار التعاون الدفاعي بين تركيا ودول الخليج عموماَ إلى جانب الصفقات الثنائية الكبيرة في مجالات الاقتصاد والتجارة والاستثمار، إلى أنّ العلاقات الجديدة بين تركيا والخليج تتطوّر إلى شراكات استراتيجية شاملة.
تحظى الشراكة بين تركيا والخليج بارتياح أميركي طالما أنها تُساعد في تقوية العلاقات الجديدة بين حلفاء واشنطن في المنطقة
عامل آخر يُفسر الاهتمام الخليجي بصناعات الدفاع التركية. لطالما كانت دول الخليج تعتمد طوال عقود على الولايات المتحدة راعياً لأمن منطقة الخليج، لكنّ حالة عدم اليقين بشأن مستقبل المظلة الأمنية الأميركية للخليج مع ميل واشنطن إلى تخفيف ارتباطها الأمني بالمنطقة وتركيز مواردها العسكرية على مواجهة التحدّيات الجديدة المتمثلة في الصين وروسيا، تدفع دول الخليج إلى العمل على تنويع شراكاتها الخارجية وسيلة تحوّط استراتيجي وللحدّ من تأثير التراجع الأميركي على أمن الخليج. لذلك، تبرز تركيا أحد الشركاء الجدد لدول الخليج في مجالات الأمن والدفاع. ومن غير المتصورّ أن تُنهي دول الخليج اعتمادها بشكل كامل على الولايات المتحدة في مجالات الأمن والدفاع، لكنّ مثل هذه الشراكات الجديدة توفّر لها خيارات أخرى، وتجعلها أكثر قدرة على إعادة تشكيل علاقاتها مع واشنطن والقوى الإقليمية والدولية بشكل متوازن.
بالنسبة لتركيا، تبدو الشراكة القوية التي أقامتها مع قطر منذ سنوات نموذجاً فعالاً لتطبيقها على دول الخليج الأخرى، مثل السعودية والإمارات والكويت والبحرين وجزئياً سلطنة عُمان. من المتوقع أن يُجري أردوغان في شهر أغسطس/ آب الحالي جولة أخرى في الخليج، تشمل الكويت والبحرين وسلطنة عُمان. على مدى العقد الماضي، استطاعت تركيا تعزيز دورها فاعلاً إقليمياً قوياً ومؤثراً في السياقات الأمنية لبعض صراعات المنطقة، مثل سورية والعراق وليبيا. لن تعود الشراكة التركية الخليجية الجديدة بالفوائد الاقتصادية والعسكرية والأمنية على الطرفين فحسب، بل تجعلهما فاعلين مؤثرين في القضايا الإقليمية أيضاً. ستكون الخطوة التالية في الشراكة الجديدة بين أنقرة والخليج تطويرها إلى مواءمة السياسات تجاه هذه القضايا، والتي ستعمل على إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية الإقليمية.
تنمية الشراكة التركية الخليجية إلى الأمن والدفاع تتيح لمنطقة الخليج شراكات خارجية متوازنة
مع أنّ الشراكة الجديدة بين تركيا والخليج كانت، في أحد دوافعها، نتاجاً لتراجع علاقات أنقرة ومنطقة الخليج مع الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، إلّا أنها تحظى بارتياح أميركي طالما أنها تُساعد في تقوية العلاقات الجديدة بين حلفائها في المنطقة، وتُتيح لواشنطن مواصلة تخفيف ارتباطها الأمني مع الشرق الأوسط. ينبع أحد الهواجس الأميركية من استراتيجية التحوّط التي تقودها دول الخليج من أن تؤدّي إلى تعميق الدورين الروسي والصيني في المنطقة. ومع أنّ الشراكات التي تُقيمها دول خليجية، مثل السعودية، مع الصين مُصمّمة أساساً وسيلة لتنويع الخيارات الاستراتيجية، وليست بديلاً عن العلاقة مع الولايات المتحدة، إلآّ أن تنمية الشراكة التركية الخليجية إلى مجالات الأمن والدفاع تُتيح لمنطقة الخليج إقامة شراكات خارجية متوازنة. من الفوائد المتصوّرة للتعاون الخليجي مع تركيا في مجالات الأمن والدفاع أنها ستُعزّز قدرة دول الخليج على مواجهة التحدّيات الأمنية التي تواجهها، خصوصاً تلك المرتبطة بحرب اليمن وأمن الملاحة البحرية.
أما الفوائد المتصوّرة لتركيا من هذه الشراكة فهي تتجاوز الحسابات التجارية في مبيعات الأسلحة التركية إلى منطقة الخليج، وتُساعدها في تقديم نفسها لاعبا جديدا قادرا على المساهمة في تحقيق أمن الخليج واستقراره، وما يعنيه ذلك من أبعاد جيوسياسية مهمة في العلاقات التركية الخليجية. لا يزال من المبكّر معرفة آفاق هذه العلاقة عموماً، لكنّ توفّر الإرادة السياسية لدى الطرفين لتطويرها بشكل متسارع إلى شراكات شاملة مُتعددة الأوجه من التكامل الاقتصادي إلى التعاون الأمني والدفاع ومواءمة السياسات الإقليمية، يجعل تركيا والخليج فاعليْن قويين في النظام الإقليمي الجديد الذي يتشكّل منذ ثلاث سنوات.