انتهى القسم الأول من القصة التي رواها لي صديقي أبو سطام، عن رئيس قسم الإحصاء الذي أمر موظفي القسم بتنفيذ جولة في ريف محافظة إدلب، لإحصاء الناس الذين يشربون الماء من (القِلْد)، وهو عمل تافه بالطبع، فالمعروف أن مؤسسات الدولة تعتمد الإحصاء من أجل وضع الخطط المستقبلية، ولكن، لنفرض أن الإحصائية توصلت إلى أن الأشخاص الذين يشربون من القلد، في المحافظة 700 شخص، ما الذي ستفعله المديرية لأجلهم إذا كان معظمُ سكان المدن والقرى، وعددهم مئات الألوف، يعانون من انقطاع المياه في بيوتهم؟
بالنسبة إلي، لم تكن هذه المناقشات الجدية تعنيني، وكنت ألاحق صديقي أبو سطام بالأسئلة، حباً بالقصص الطريفة التي كان (يُمتعني) بها و(يؤنسني)، وهي التي أعرضها عليكم في مدونة "إمتاع ومؤانسة" بصحيفة العربي الجديد، كما ترون.
حكى لي أبو سطام تفاصيل كثيرة عن حالات اخترعها من خياله، وأضيفت إلى البيانات الإحصائية خلال أيام الجولة الإحصائية، التي امتدت، كما قال لي، على عشرة أيام، تناول الموظفون خلالها غداءهم في معرة النعمان، وفي سلقين، وفي سراقب، وتناولوا ما لا يحسب الحاسب من الشعيبيات، والكنافة أم النارين، والهيطلية، وبوظة "أبو سلوى"، وسددوا هذه المصاريف من تعويض السفر الذي كان يُصرف لهم بانتظام، وأما الأوراق الإحصائية التي نتجت عن الجولة فقد وقعها رئيس القسم، الأستاذ سطام، ورفعها إلى المدير، وقعها، ثم أودعت في مستودع الكراكيب القريب من قسم الإحصاء.
سألته: ألا يوجد أي إنسان في المديرية يخطر له أن يقرأ محتويات تلك الأوراق؟
- أبداً. أنا أراهنك على أنها ستُتلف في أول عملية إتلاف للأضابير القديمة.
- طيب عزيزي أبو سطام. اسمح لي أن أحكي لك قصة حدثت في مطلع التسعينات، تذكرتها الآن بعدما سمعت حكايتك، فالحكايتان تجمع بينهما القواسم المشتركة ذاتها: أعني غباء المسؤولين، الهدر، اللامبالاة، التخلف، التفاهة.
- عال. إنني مصغ إليك.
- أنت، يا أبو سطام، تذكر الأغاني التي كانت تنزل إلى الشارع بين الحين والآخر، فيسمعها الإنسان كيفما تحرك، مثل: حبحبني عالخدين شو هالجسارة، وع العين موليتِن، والحاصودي، وشلونك عيني شلونك.
- طبعاً أذكرها.
- وكانت لكل واحدة من هذه الأغاني قصة، تروى على سبيل النكتة، ومنها أن الكاتب الكبير محمد الماغوط كان يُجْبَرُ على سماع أغنية سميرة توفيق ع العين مولايتن، وكلما وصل إلى مقطع (جسر الحديد انقطع من دوس رجليّ) يقول لنفسه: شو هَي؟ مطربة أم بلدوزر؟ ويحكى، أيضاً أن سائحاً بريطانياً كان يتجول في دمشق، وحيثما اتجه يسمع أغنية علي الديك "الحاصودي"، إذا ركب باص نقل داخلي، أو تكسي أجرة، يسمع الأغنية نفسها، ومن كثرة الطَرْق بـ الحاصودي على أذنيه، ورأسه، صار يتطير منها، ويحاول تفادي سماعها، وذات مرة، صعد في سيارة أجرة، وقال للسائق: بليز، "باب شاركي". فانطلق السائق به نحو "باب شرقي"، وبعد قليل فتح السائق التابلو، ومد يده نحو أشرطة الكاسيت، فأمسكه السائح من يده وقال: (Please no Hasoudi)!
قال أبو سطام: أنا سمعت نفس النكتة، ولكن السائح يقول: No Habhabni!
- يا سيدي، كله محصّل بعضه، وبظني أن أجمل حكاية حصلت، كانت مع أغنية المطرب العراقي صلاح عبد الغفور "شلونك عيني شلونك"، التي ضربت ترند في أوائل التسعينات. وتفصيلُها أن مدير إحدى الدوائر الحكومية في مدينة إدلب، دخل مقر دائرته في الصباح، فهرع إليه الآذن، وقال له: يا أستاذ، اتصلوا بك من مكتب الوزير بالشام، وقال اتصل بهم فور وصولك. أسرع المدير إلى مكتبه، واتصل بمكتب الوزير، فأملوا عليه برقية مسجلة، طلبوا فيها أن يوافي مكتب الوزير، بإحصاء شامل، مفصل، لعدد العاملين في المديرية، ورواتبهم، وتعويضاتهم، والضرائب التي تقتطع منها، وعدد أولادهم، والتعويض العائلي الذي يتقاضونه، وأسماء الموظفين الذين يبلغون سن التقاعد خلال السنوات الخمس التالية، وعدد المواطنين الذين يراجعون المديرية يومياً، وشهرياً، وسنوياً، ومعدل إنجاز المعاملات، والشكاوى التي ترد إلى الدائرة، وكيفية معالجتها، والديون المترتبة على الغير، وديون الغير على الدائرة، والزمن المتوقع لتسديدها... مع الإشارة إلى أن السيد الوزير يريد أن تأتيه هذه المعلومات في آخر الدوام، حتماً.
دهش المدير من هذه العجلة، ودعا الموظفين الرئيسيين عنده إلى اجتماع عاجل، وبالتشاور معهم عرف أن المديرية تستطيع أن تجهز هذه المعلومات المطلوبة خلال عشرة أيام على الأقل، شريطة أن يُسمح لهم بدوام أربع ساعات مسائية، بالإضافة للدوام العادي. سجل المدير هذا الكلام، وأرسل إلى الوزير برقية تنص على أننا سنعطيكم ما طلبتم من معلومات بعد عشرة أيام من تاريخه. ولكن برقية أخرى عاجلة وردتْ من مكتب الوزير فيها إصرار على الطلب الأول، أن تأتي المعلومات في آخر الدوام الرسمي.
- صدقني، يا أبو مرداس، معظم الدوائر السورية تعمل بهذه الطريقة.
- نعم. وأنا أعرف الكثير من هذه القصص، يا أبو عناد، من خلال عملي في دائرة الرقابة المالية، وكلها قصص تتسم بالطرافة، ولكن دعني أكمل لك هذه الحكاية، وأنت تعلم، يا أبو سطام، أن الحاجة أم الاختراع، وساعات الدوام الرسمي كانت تمضي بسرعة، والمدير يفكر ويضرب أخماساً بأسداس، وقبل ساعة واحدة من انتهاء الدوام، خطرت له فكرة جهنمية، فأغلق على نفسه باب الغرفة، وطلب من الآذن أن يأتيه بفنجان قهوة، ووضع أمامه البيان الإحصائي، وصار يغني:
شلونك عيني شلونك
شو مخلي على عيونك
شقد شفت عيون أنا والله
ماكو أحلى من عيونك
ويملأ البيانات بأرقام من عقله، كلها خاطئة، وحتى غير تقريبية، وعندما اكتملت، أرسلها بالفاكس إلى مكتب الوزير.
في المساء، كان جناب المدير يتناول العشاء مع عياله، وعيناه على شاشة التلفزيون الذي كان يعرض اجتماعاً لمجلس الوزراء، يبث مباشرة على التلفزيون الرسمي، وشاهدَ بعينه، وسمع بأذنه، الوزيرَ وهو يقرأ الإحصائيات المتعلقة بوزارته، ومنها البيانات المتعلقة بالمديرية التي أَلَّفَهَا هو، على إيقاع أغنية شلونك عيني شلونك!