قُدّر للعراق أن يكون قطب الرحى في مختلف الأحداث التي دارت في الشرق الأوسط في الخمسين عاما الماضية، فكان أن انتقل بين أحوالٍ شتى وتقلبات عدّة انعكست على حياة المواطن العراقي بالدرجة الأولى، ثم على طبيعة النظام الحاكم وجيران العراق، وصولا إلى علاقة العراق بمحيطه ومن ثم علاقته بالعالم. ولعل العلاقة بين العراق والولايات المتحدة ظلّت من أكثر العلاقات التباسا، فواشنطن التي كانت، في لحظة ما، داعمة للنظام العراقي السابق في حربه مع إيران، أو على الأقلّ هكذا كانت تبدو، تبيّن لاحقاً أنها كانت تزود طهران بالأسلحة ومعها ربيبتها في المنطقة، إسرائيل، قبل أن يأتي غزو العراق الكويت ليضع العلاقة في طور آخر، تمثل في حرب الخليج الثانية التي شنّتها الولايات المتحدة ومعها 33 دولة لطرد القوات العراقية الغازية من الكويت. حتى إذا ما جاءت تفجيرات 11 سبتمبر (2001) في نيويورك وواشنطن، لتجد واشنطن فيها طريقها للمرور إلى بغداد غازية محتلة، وتضع حدّاً للنظام الذي كانت تصفه بمحور الشر مع النظامين في كوريا الشمالية وإيران، مدّعية أن العراق في طريقه إلى امتلاك القنبلة النووية. وتحت هذه الكذبة، جيّشت العالم لتغزو العراق، مخالفة كل الأعراف والشرائع القانونية، لتزيح نظامه السابق وتستبدله بمن موّلتهم ودعمتهم سنواتٍ، من شخصياتٍ وأحزاب وقوى، أنشأت إيران غالبيّتها، فكان أن سلمتهم البلاد والعباد لتخرج عام 2011، بعد أن اعتبر الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، أن مسؤولية عملية غزو العراق تتحمّلها الإدارة السابقة برئاسة جورج دبليو بوش، وكأن أميركا المؤسّسات كانت تُحكم من بوش، وليس من إدارة مؤسّساتية لطالما تباهت بها أميركا.
أوفى أوباما بوعده، ووقّعت بغداد وواشنطن اتفاقية عرفت لاحقا باتفاقية "صوفا"، نصّت على استكمال الانسحاب الأميركي من العراق عام 2011 وهو ما تم بالفعل، ليجد المالكي وحكومته، ولأول مرة أنفسهم، في حل من الوجود الأميركي وتدخّلاته التي كثيرا ما كانت عائقا أمام تنفيذ بعض تطلعاتهم ومصالحهم ومصالح أحزابهم. حتى إذا ما حلّ العام 2014 وانكسرت القوات العراقية التي درّبتها الولايات المتحدة أمام زحف تنظيم الدولة الإسلامية، فكان لا بدّ مما ليس منه بد، وهو الاستعانة بالقوات الأميركية مرة أخرى، والتي وجدت فيها واشنطن فرصتها لإعادة تموضعها في العراق، بعد انسحاب ظهرت فيه الولايات المتحدة خاسرة، خصوصا أن حكام العراق الجدد ممن أتت بهم انحازوا لجارتهم الشرقية، إيران، وتحوّلوا من أصدقاء أميركا إلى أعداء، أو هكذا قالوا.
تعرف الولايات المتحدة ومن قبلها إيران حدود تعاملهما وحدود المسموح به سياسيا وعسكريا، تجنبا للانزلاق إلى هاوية المواجهة المسلحة
تجد الولايات المتحدة نفسها اليوم ملزمة بإعادة تريب أوراقها في العراق، فالأمر لم يعد يقتصر على وجودها في العراق حسب، وإنما أيضا بالتمدّد الإيراني الذي أكل جسد الدولة العراقية وحوّلها إلى حديقة خلفية لتنفيذ سياسات طهران، ناهيك طبعا عن الوجود الإيراني الكبير في سورية، وفتح الطريق البرّي بين طهران ودمشق وصولا إلى الساحل السوري، الأمر الذي يتطلّب من واشنطن ترتيب أوراقها مجدّدا.
تعرف الولايات المتحدة ومن قبلها إيران حدود تعاملهما وحدود المسموح به سياسيا وعسكريا، تجنبا للانزلاق إلى هاوية المواجهة المسلحة، فلا طهران ترغب بذلك، ولا واشنطن أيضا لديها الرغبة بمثل هذه المواجهة، وهما اللذان خبرا جيّدا ما يعنيه هذا النوع من المواجهات، وما يخسرانه بسببها. وتحوّل العراق إلى ساحة للصراع، فما بين نفوذ إيراني طاغٍ على الواقع السياسي والاقتصادي وحتى الاجتماعي، ونفوذ دولي وقدراتٍ لا حصر لها تملكها الولايات المتحدة، يقف العراق الدولة بين قطبي الرحى.
تختفي شعارات المقاومة التي رفعتها مليشيات ولائية عراقية محسوبة على إيران، بمجرّد أن يتسلم زمام الحكم مرشّحهم لمنصب رئاسة الحكومة، وتحتفي معها شعارات الثأر لمقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني والعراقي أبو مهدي المهندس في غارة أميركية قرب مطار بغداد مطلع العام 2020. وبدلا من ذلك، يتحوّل هذا العداء إلى ودّ، وتبدأ السفيرة الأميركية آلينا رومانوسكي صياغة واقع جديد بالتعامل ليس فقط مع الحكومة، وإنما حتى مع أحزابها ومليشياتها التي طالما كانت تعدّها واشنطن إرهابية.
أخيرا، يزور وفد عسكري عراقي واشنطن، ويبحث مع وزير دفاعها ترتيبات المرحلة المقبلة، ويتم الاتفاق على بقاء القوات الأميركية بصفة استشارية وتدريبية، ولا تخرج الأصوات المناهضة للولايات المتحدة ووجودها العسكري في العراق، لترفض هذا الاتفاق، وتتهم الوفد العسكري العراقي بأنه عميل للشيطان الأكبر، كما جرت في مناسبات سابقة.
العلاقة العراقية الأميركية لا تحكمها مصالح بغداد وواشنطن بقدر ما تحكُمها مصالح طهران وواشنطن
تعرف الولايات المتحدة أنها في دعمها حكومة محمد شيّاع السوداني إنما تدعم قوى وأحزابا ومليشيات متورّطة حتى بمقتل جنود أميركيين، ناهيك عن أن بعضها متورّط بجرائم ضد الإنسانية، فضلا عن دورها في تمويل إيران، بعد أن تحوّل العراق إلى ثقب أسود لتمييع الحصار الأميركي المفروض على طهران، والكل يعلم، وأولهم واشنطن، حجم الأموال العراقية التي تهرّب بشكل يومي إلى إيران.
لا يمكن لك اليوم أن تصيغ رؤية معينة حول طبيعة العلاقة التي تربط العراق بالولايات المتحدة، فهذه العلاقة غالبا ما تحدّدها مصالح واشنطن وطهران بعيدا عن مصالح بغداد، فأعداء اليوم أصدقاء الغد والعكس صحيح، طالما أن هذه العداوة والصداقة تضمن لكلا المتحكّميْن بالملف العراقي، واشنطن وطهران، تحقيق مصالحهما.
أما إذا ما سألتَ عن العراقيين، الحكومة، من هذا الصراع المصالحي والتخادم الكبير الذي بدأ قبل غزو العراق بسنوات، فالجواب أن هذه الحكومة هي الأخرى ليست أكثر من صنيعة طهران وواشنطن. وبالتالي، لا تملك من الأمر أكثر من التمثيل الشكلي للعراقيين، وحتى هذا التمثيل الشكلي مشكوكٌ فيه في ظل انتخابات لم يشارك فيها أكثر من 17% من العراقيين، ومع ذلك انقلبت على نتائجها القوى والأحزاب الموالية لإيران.
العلاقة العراقية الأميركية لا تحكمها مصالح بغداد وواشنطن بقدر ما تحكُمها مصالح طهران وواشنطن، وتلك لعمري واحدة من أكبر الكوارث التي حلت على العراقيين، والتي تتحمل مسؤوليتها الولايات المتحدة قبل غيرها.