ذكرى كلّ حدث تاريخي، خصوصاً التاريخ السياسي المعاصر، فرصةٌ لمراجعاتٍ تستجلي الحقيقة وتراكم المعلومات، ليكون الاستذكار فعلاً معرفياً، ولكنه للأسف، مع هيمنة مواقع التواصل الاجتماعي، يتحوّل إلى أداةٍ للاستقطاب والتنابز وتبادل الاتهامات، فتتحوّل الذكرى إلى مجرّد مادة للشحن الانفعالي لا أكثر.
وللأسف، فإن كثيرين محسوبين على طائفة المثقفين يساهمون في هذا التهييج الانفعالي، بدل أن يؤدّوا دورهم في زيادة المعرفة وكشف الحقيقة، طمعاً في مزيد من المتابعة على مواقع التواصل ومسايرةً لتصوّرات عامة، غير علمية بالضرورة، يأخذها جزءٌ من الجمهور العام مأخذ الحقائق الصلبة غير القابلة للنقاش.
لعل من الوعود التي فتحها فضاء ما بعد 2003 في العراق إمكانية أن تقوم النخب الثقافية والأكاديمية والإعلامية بمراجعات للتاريخ العراقي المعاصر، حتى نبدأ ما يمكن أن نسمّيه مساراً لتوحيد الذاكرة السياسية في العراق.
يجب أن يكون هناك مسار عام لصالح الحقيقة العلمية الأكاديمية التي تروي التاريخ السياسي للعراق، بغضّ النظر عن الاختلافات الأيديولوجية الطبيعية للناس والشرائح الاجتماعية المختلفة في نوع الحكاية المتداولة عندهم عن هذا التاريخ.
فليختلف الناس في معنى ما حدث في 14 يوليو/ تموز 1958 هل هو ثورة أو انقلاب، وليتدرّب الفضاء العام على تقبّل الاختلاف، وإدارة هذه الاختلافات بالحوار وليس الإرهاب أو العنف، ولكن على دوائر الأكاديمية العراقية والمثقفين أن يصلوا إلى حكاية موحّدة، أقرب إلى العلم والمنطق عمّا جرى في هذا التاريخ.
ولقد ذكرت حدث 1958 مثالاً ليس إلا، فهو على الرغم من الزخم الانفعالي الذي يجلبه في النقاشات يبقى موضوعاً مأمون الجانب، ولا يجلب على المُغاير والمختلف فيه تهديداً أو وعيداً إلا فيما ندر. ولكن، ماذا نفعل مع حدث تاريخي مزلزل مثل الحرب العراقية الإيرانية؟ أطول حروب القرن العشرين والمنعطف الذي غيّر وجه العراق والمنطقة إلى الأبد.
حتى لحظة الغزو الداعشي، كان نظام ما بعد 2003 قادراً، بنسبةٍ ما، على استيعاب النقاش الحرّ بشأن الحرب العراقية الإيرانية، ولكن نتائج هذا الغزو وحرب التحرير التي تبعت ذلك جعلت الأطراف الموالية للنظام الإيراني أقوى وأكثر هيمنةً على النظام السياسي في العراق. وبالتالي، صار من الصعب توجيه انتقاداتٍ للنظام الإيراني في الفضاء العام. وتبعاً لذلك؛ توجيه نقد لمسؤولية هذا النظام في النتائج الكارثية للحرب العراقية الإيرانية.
الحكاية الرسمية السائدة في الخطاب الإعلامي الرسمي، وبين النخب الإعلامية المقرّبة من التيارات السياسية المهيمنة؛ إلقاء اللوم بالمجمل على النظام العراقي، وتبرئة إيران من جريرة الحرب. وذلك فيما مسؤولية الجانب الإيراني معروضة في الكتب والأفلام الوثائقية، وهناك عشرات الشهادات المدوّنة من عراقيين وإيرانيين وصحافيين وباحثين أجانب، ومن يريد أن يعرف الحقيقة يستطيع أن يطّلع عليها بسهولة، لكن معرفة الحقائق وتداولها والنقاش بشأنها في الفضاء العام أمران مختلفان.
الحقيقة هنا لا تعني تعليق الحرب على رقبة النظام الإيراني أو العراقي، والاستقطاب وتبادل الاتهامات كما يجري في وسائل التواصل، وإنما كشف الحقيقة وفهم ظروف الحرب وأسبابها، ومن ثمّ فهم تلك الخيوط التي ما زالت ممتدة منذ تلك الحرب، بما يساعد على معرفة كيفية التطهّر منها ومن عواملها، والنظر إلى المستقبل بعيون صافية غير مضبّبة بالأوهام والترّهات.
مرّت الذكرى الـ 43 لهذه الحرب، وتسيّد الفضاء الإعلامي في استحضار الذكرى صوت أحزاب السلطة ومدوّنيها. وعلى الطرف الآخر، كان هناك من يتبنّى سردية النظام البعثي جملة وتفصيلاً، يكتب من خارج العراق، أو بأسماء مستعارة. أما المفقود فهو الصوت العقلاني والقراءة العلمية للتاريخ، وهو صوتٌ مفقودٌ بسبب جو الإرهاب والخوف من تبعات "قول الحقيقة" داخل العراق. صوت معارضي هذه الحرب من أصحاب الموقف النقدي ضد النظامين العراقي والإيراني، وما تعاونا عليه لإنتاج هذه الكارثة الإنسانية على الشعبين.