غنّى فريد الأطرش، حين كان المزاج عربياً خالصاً، في أغنيته الشهيرة "بساط الريح"، وهي من كلمات بيرم التونسي: تونس أيا خضرا يا حارقة الأكباد/ غزلانك البيضا تصعب على الصياد... غزلان في المرسى والّا في حلق الواد/ غزلان في المرسى والّا في حلق الواد... على الشطوط تعوم ما تخوف صيد المي.
في أمثالهم الجارية، يصف التونسيون صيفهم بالضيف، فيقولون: "الصيف ضيف". ومن دلالة هذا المثل سرعة انقضائه كأنه لمح البصر، فضلاً عما يقتضيه الضيف من حُسن استقباله بما يليق به. وفعلاً يُستقبل الصيف في تونس، في أحيان كثيرة، على هذا النحو أو أكثر: استعدادات لطلاء المساكن وتزيينها، الأفراح والليالي الملاح، الموضة، ارتياد الشواطئ... إلخ. وأضيفت في العقود الأخيرة عادات جديدة، على غرار استقبال التونسيين الآتين من بلدان المهجر. وابتكر التونسيون، ربما على خلاف بعض المجتمعات العربية، سلوكات صيفية خاصة بهم، على غرار "الخلاعة"، وهي كما يشير اللفظ باللهجة المحلية تدل على التخلي عن الصرامة والجدّية، بما يتيح للأجساد والأرواح المنهكة من العمل بعضاً من المتعة، ولا يجد التونسيون من ملاذ سوى البحر. يخلع التونسيون عنهم كل الضوابط الصارمة من أجل التمتع به. يبدو أن هذه الممارسة الشاطئية حديثة، فقد جرى ابتكارها مع مجيء الإيطاليين، إذ بدأ الشاطئ ممارسة صيفية لها طقوسها الخاصة. البحر صديق التونسيين منذ تاريخ طويل، وهو يطوّقهم بآلاف الكيلومترات ويحرسهم. سافروا منه، وبنوا حضارة قرطاج العظيمة وأكلوا منه، وتشهد لوحات الفسيفساء على أن مآدبهم شهدت أفخر الأطباق بغلال البحر وفاكهته.
ولكن يبدو أنهم التاعوا من هذا البحر ذاته، وقد أغار عليهم الغُزاة والقراصنة، حتى أوجعوهم. ومنذ بدايات القرن العشرين، وتحديدا مع قدوم الإيطاليين في الثلاثينيات، ابتكروا في احتكاكهم بهم علاقة جديدة، لا يغدو البحر فيها مصدر رزق أو خوف، إنما فضاءً للمتعة: يلاطف الجسد الماء ويتمدّد على رمال الشاطئ تحت أشعة الشمس، حتى غدا البحر فتنة لا تُقاوم. ثمّة مجتمعات عديدة يجاورها البحر، ولكنها لا تلاطفه بأجسامها. مجتمعات تستلطف الصحراء رغم أنها على مقربةٍ من البحر، تستلطف الجبل، وهي بلدان يحدّها البحر من جهات عديدة... إلخ. التونسيون مهووسون بالبحر، ولم يعد حكرا على فئة أو جهة. لقد غدا الاصطياف ممارسة شعبية.
شهد الصيف جل الاعتقالات والمحاكمات السياسة الكبرى في تونس
غدا الصيف موسماً تستعدّ له العائلات والسلطات: استقبال الإدارات والوزارات المعنيّة المهاجرين، برمجة ثقافية خاصة تؤمّنها المهرجانات المختلفة، وأهمها قرطاج والحمّامات، فضلاً عن عشرات المهرجانات الأخرى التي تناسلت وتكاثرت في فوضى كبيرة. الصيف طقس خاص، له شعائره وعاداته. وجرى تعميم ممارسات صيفية عديدة. ولم تعد حكراً على الطبقات المرفّهة، فغدت للتونسيين سياحة داخلية وشواطئ شعبية من أجل أن يكون للكل نصيب من هذا الصيف، حتى لا تظل "فئات محرومة منه"، حتى إنّ لفيسبوك حلته الصيفية المميزة، أطباق صيفية وأذواق صيفية... إلخ.
تعي السلطة تماماً أنّ "الخلاعة" هذه تصيب العقول أيضاً، وهي لا تكتفي بخلاعة الأجساد من ربقة أنظمة المراقبة القيمية واللباسية، فاستغلت الصيف وفق استراتيجيات تعزّز سلطاتها. ولعلها من المصادفات أن يكون عيد ميلاد "المجاهد الأكبر" الحبيب بورقيبة يوم 3 أغسطس/ آب، حيث كانت البلاد تشهد مهرجان عيد ميلاده، الذي يتواصل شهراً في مدنية المنستير مسقط رأسه، بالشعر الشعبي والاستعراضات. وكانت التلفزة الوطنية تغطّي يومياً في نشرة أخبار الثامنة مساء نزوله في مايوه السباحة مع مرافقين ومستشارين له، وكان هذا الخبر الوطني الأول من دون منازع. كان التونسيون في حرج من أمرهم وهم يرون رئيسهم في ذلك اللباس الشاطئي. خارج هذه الصورة "الخلاعية"، عادة ما يجرى الإعلان عن أهم الزيادات في الأسعار في هذا الصيف، حيث ينشغل الناس بالبحر والأعراس ويهجرون الإعلام، فضلاً عن عطلهم الصيفية التي تقريباً تشلّ جزءاً كبيراً من الإدارة. كما شهد الصيف أيضاً جلّ الاعتقالات والمحاكمات السياسية الكبرى في البلاد، خصوصاً التي طاولت الإسلاميين في يونيو/ حزيران 1981 وحملة التسعينيات أيضاً.
لا ينشغل التونسيون في الصيف بالشأن العام، وقلما شدّتهم القضايا الكبرى
لا ينشغل الناس في الصيف بالشأن العام، وقلما شدّتهم القضايا الكبرى، باستثناء ما يحدُث من حين إلى آخر في أرجاء الوطن العربي: حرب لبنان، الحرب على غزة، حرب العراق... إلخ. يطلق الناس الشأن السياسي، ويعزفون عن الخوض في ما يكدّرهم. ومع ذلك، يعترفون في غمرة اصطيافهم هذا: كان صيف هذه السنة ثقيلاً: طوابير طويلة للفوز بالخبز ومواد غذائية أخرى، انقطاع الكهرباء، أخبار حزينة... حدثني أديب فلسطيني مقيم منذ نحو أربعة عقود في تونس، وقد عاش تحت الاحتلال الإسرائيلي، علاوة على تجارب المهجر في بلدان عديدة، أنه لم يشهد مثل هذه الطوابير الطويلة لشراء مواد حيوية، الخبز والقهوة والسكر في وقت واحد "حتى في أيام الحرب، بقيت أعثر على هذه المواد. ما الذي يحدُث في تونس؟".
سينقضي الصيف بعد أيام قليلة، وهو الضيف الذي لا يديم زيارته، ليعود التونسيون إلى نسقهم العادي، غير أنهم سيكونون أمام جبال من الأعباء: عودة مدرسية، وضنك قوتهم اليومي، وقضايا الشأن العام إذا ما وجدوا إليها سبيلاً. ثمّة مساجين رأي مرّ الصيف من دون أن ترى عيونهم النور. ثمّة مجتمع تونسي صيفي، قد لا يشبه مجتمع الشتاء وبقية الفصول الأخرى: مجتمع الاحتجاج الشتوي (ديسمبر/ كانون الأول، يناير/ كانون الثاني) ومجتمع التخلع الصيفي؟ ربما...