مخيمات الفلسطينيين في لبنان: بين الصراع الفلسطيني وحصار الدولة

آخر تحديث 2023-08-27 00:00:00 - المصدر: العربي الجديد

على امتداد الخارطة اللبنانية من الشمال إلى الجنوب، ومن العاصمة بيروت غربًا إلى مدينة بعلبك، يمكن ملاحظة مجموعةٍ من البقع الصغيرة السوداء، تسمى مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين. بقعٌ سوداء بلون النكبة الفلسطينية، المستمرّة فصولها منذ ما قبل سنة 1948، وحتّى يومنا هذا، وامتدادًا إلى سنواتٍ وربّما عقودٍ قادمةٍ. بقعٌ سوداء صغيرةٌ تضيق بقاطنيها كلما تمادت النكبة الفلسطينية فصولًا. بقعٌ يزيد في قتامة اسودادها نكوث الدولة اللبنانية، والقوى الطائفية الممسكة بزمام سياساتها، بالتزامها بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يتباهى قادة الرأي فيها بإنجاز مندوب لبنان التاريخي حينها في المنظّمة الدولية، الدكتور شارل مالك، الذي كان واحدًا من اثنين أشرفا على صياغته، وتقديمه للأمم المتّحدة، بعد ثلاثة أعوامٍ على تأسيسها، هذا الإعلان الذي تضمنته مقدمة الدستور اللبناني، بعد تعديلات اتّفاق الطائف، والذي لم يصب اللاجئين الفلسطينيين في لبنان منه سوى الخيبة والنكران.

هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى؛ تعاطي الفصائل الفلسطينية المسلّحة مع المخيّمات كمناطق نفوذٍ، وبالتالي تنازع السيطرة فيها وعليها، ما أوقع المدنيين الفلسطينيين فيها بين نيران الصراع الفصائلي داخل المخيّم، وبين سندان حصار السلطة اللبنانية من خارج أسواره، التي تذكرنا دائمًا بجدار الفصل العنصري، الذي أقامه الاحتلال الصهيوني في الضفّة الغربية المحتلة. ومشهد الفصل الأخير قبل أيّامٍ في مخيّم عين الحلوة، قرب مدينة صيدا، أوضح مثال على ذلك.

مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان

بعد أنْ دمّرت العصابات الصهيونية قراهم، وارتكبت مجازر عدّةً بحقّ مئاتٍ منهم، لجأ مئات الألوف من أبناء الشعب الفلسطيني إلى بلدان الطوق، المحيطة بفلسطين، حاملين معهم مفاتيح العودة القريبة، التي وعدتهم بها الدول العربية، وكان نصيب أزيد من مئة ألف منهم أنّ يحطوا رحالهم في لبنان، حيث وعدهم وزير خارجيته آنذاك؛ حميد فرنجية، بتقاسم رغيف الخبز معهم.

لقد كان الحري بمنظّمة التحرير الفلسطينية، وباقي الفصائل، أنّ تحيد المخيّمات عن الحروب، وكان عليها أنّ تجعل منها مساحاتٍ آمنةً

بعضهم نصب خيمه قرب مدينة صور، وآخرون استقروا قرب نبع عين الحلوة شرق صيدا، وآخرون حطوا رحالهم في العاصمة ومحيطها، تعطل القطار بأعدادٍ منهم قرب نهر البارد شمالًا، بعد أنّ كان مقصدهم الشمال السوري، فنصبوا خيامهم بجوار النهر، وآخرون استقروا بجوار مدينة بعلبك في الشمال، ومنهم من استقر في سهل قرية القرعون البقاعية.

قدّم الصليب الأحمر الدولي المساعدات الإنسانية للاجئين، ولم يتخاذل المجتمع اللبناني في احتضانهم، إلى أن تأسست منظّمة الأمم المتّحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، التي تعهدت باستبدال الخيم بالبيوت، فكانت المخيّمات التي نراها اليوم، وتلك التي شطبت من الوجود في مناسبات عديدةٍ وهي:
مخيّم القرعون؛ بسبب بناء سد القرعون، وبالتالي تشكل بحيرة القرعون في السهل الذي كان يحوي المخيّم. مخيّم غورو قرب بعلبك نقل ساكنوه إلى مخيّم الرشيدية قرب صور. مخيّما تل الزعتر وجسر الباشا دُمّرا وارتكبت أبشع المجازر ضدّ أبنائهما من قبل المليشيات الطائفية، خلال الحرب الأهلية، وبدعمٍ كاملٍ من جيش النظام الأسدي.

أما المخيّمات التي لا زالت قائمة، وتعترف بها وكالة الأونروا حتّى اليوم، ويقيم فيها أكثر من نصف تعداد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، فهي اثنا عشر مخيمًا، لم تسلم في معظمها من التدمير الكلّي أو الجزئي، على يد جيش الاحتلال الصهيوني، أو على أيدي المليشيات الطائفية، المدعومة تارةً من نظام حافظ الأسد، وتارةً أخرى من الاحتلال الصهيوني، وهي التالية: الرّشيديّة، برج الشّمالي، البصّ، عين الحلوة، الميّة وميّة، برج البراجنة، شاتيلا، مار إلياس، ضبيّة، ويفل (الجليل)، البدّاوي، ونهر البارد. في ما يقيم بقيّة اللاجئين في المدن والقرى اللبنانيّة، إضافةً إلى تجمّعاتٍ سكنيّةٍ جديدةٍ نشأت بسبب تطوّرات الأوضاع في لبنان. ومن أهمّ هذه التّجمّعات غير المعترف بها من قبل الأونروا: المعشوق، جل البحر، شبريحا، القاسميّة، البرغليّة، الواسطة، العيتانيّة، أبو الأسْوَد، عدلون، الغازيّة، وادي الزّينة، النّاعمة، سعد نايل، ثعلبايا، وغيرها.

المخيّمات والسلطة اللبنانية

هنا نتحدّث عن السلطة باعتبارها تمثيلًا حسيًا للدولة، من خلال المؤسسات الدستورية، والقوانين النافذة، والأجهزة الرسميّة المسؤولة عن تنفيذ هذه القوانين. ولكن لا يمكن؛ في الحالة اللبنانية، الفصل بين توجهات الدولة وسلوكياتها وسياساتها وأجهزتها، عن طبيعة النظام الطائفي ومشاريع القوى الطائفية وسياساتها، التي تسيطر على هذه الدولة، وتشكل نظامها، وتشرف على هندسة مؤسساتها، وبالتالي فهي تشرف على صياغة وإنتاج التشريعات والقوانين، التي تعزز سيطرتها، وكذلك على تشكيل الأجهزة التنفيذية، وعلى تنفيذ تلك القوانين، فالدولة اللبنانية بذلك؛ تصبح دولةً طائفيةً محكومةً من قبل تلك القوى والأحزاب، التي تحتكر تمثيل الطوائف، وتحتكر بالتالي قرار اللبنانيين، وتنطق باسمهم في ما يريدون أو ما لا يريدون.

مرت سنوات الخمسينيات من القرن الماضي بهدوءٍ على اللاجئين الفلسطينيين في مخيّماتهم، في ظلّ تسارع التطوّرات في البلاد العربية، من انقلاباتٍ عسكريةٍ (مصر وسوريا والعراق)، وثوراتٍ شعبيةٍ (الجزائر)، وفي ظلّ صعود الناصرية، خصوصًا بعد تأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي على مصر.

ولكن عقد الستينيات قلب أحوال المخيمات رأسًا على عقب، فبعد أحداث سنة 1958، وانطلاق الحقبة الشهابية في الحكم (برئاسة العماد فؤاد شهاب 1958-1964، ومن بعده الرئيس شارل حلو 1964-1970)، أطلقت يد الأجهزة الأمنية اللبنانية في المخيّمات، وبالأخص الجهاز الأمني "الكريه" (بحسب تعبير الصديق كميل داغر)، التابع للجيش اللبناني، أعني المكتب الثاني، الذي مارس أبشع الممارسات الأمنية التعسفية الجائرة بحقّ ساكني المخيّمات، من إذلالٍ وترويعٍ وتعدياتٍ واعتقالاتٍ تعسفيةٍ، بلا أسبابٍ حقيقيةٍ تستوجب ذلك، في وقتٍ لم يُخل أهالي المخيّمات بأيّة أوضاعٍ أمنيةٍ، ولم يكن لديهم تنظّيمات ولا أسلحة. وهذا ما راكم الأحقاد في صدور أبناء المخيّمات الفلسطينية، وصولًا إلى المطالبة بالأمن الذاتي للمخيّمات، والذي تحقق لها بعد دخول منظّمة التحرير الفلسطينية، وفصائل المقاومة إلى لبنان، واتّفاق القاهرة، الذي عقد بين المنظّمة والجيش اللبناني.

كان نصيب أزيد من مئة ألف منهم أنّ يحطوا رحالهم في لبنان، حيث وعدهم وزير خارجيته آنذاك؛ حميد فرنجية، بتقاسم رغيف الخبز معهم

غير أنّ حصار المخيّمات من خارجها ظلّ قائمًا، بل وازداد قسوةً، والتنكّر لحقوق اللاجئين الفلسطينيين الطبيعة لم يتوقف لا عند الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولا عند مقدمة الدستور اللبناني، الذي تضمنته. لقد ضاقت المخيّمات التي خصصت لأعدادٍ محدودةٍ بساكنيها، نتيجة النمو الطبيعي بعد عقودٍ، يضاف إليه تدمير الأبنية والبنى التحتية، نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية أو المليشياوية المحلية، وكذلك نزوح سكان المخيّمات التي أزيلت إلى المخيّمات الأخرى، ثم لجوء أعدادٍ كبيرةٍ من اللاجئين الفلسطينيين من سورية، نتيجة حرب النظام على السوريين منذ عام 2011. لكن الدولة اللبنانية تمنع دخول مواد البناء إلى المخيّمات، وبالتالي تمنع أيضًا ترميم الأبنية السكنية، والبنى التحتية المتداعية، إضافةً إلى إسقاط حقّ تملك ولو شقة سكنية للاجئ الفلسطيني، بذريعة رفض التوطين!

يضاف إلى ذلك؛ محاصرة الدولة اللبنانية اللاجئين الفلسطينيين في مختلف الحقوق والحريات، التي تقرها القوانين والمواثيق الدولية، كحقّ التنقل والعمل، والانتساب والاستفادة من الضمانات الاجتماعية والصحية، وحرية تشكيل الجمعيات والتظاهر.

المخيّمات وصراع الفصائل

كان انتزاع الحقّ بالأمن الذاتي للمخيّمات الفلسطينية بمثابة إنجازٍ قدّمته منظّمة التحرير الفلسطينية للاجئين، بعد انتقالها إلى لبنان، ردًا على ما تعرّض له الفلسطينيون من تعسفٍ وقمعٍ وترهيبٍ وإذلالٍ، على أيدي أجهزة الأمن اللبنانية، في ستينيات القرن الماضي. غير أنّ هذا الأمن الذاتي قد تحوّل مع تطوّرات الأحداث في لبنان، وخلال الحرب الأهلية، التي تورطت فيها منظّمة التحرير بجميع فصائلها بعمق، إلى مأساةٍ إضافيةٍ، حلّت على المدنيين، وما تخللها من مجازرٍ طائفيةٍ بشعةٍ بحقّ المخيّمات، وتنكيلٍ وترويعٍ وتهجيرٍ بحجة وجود المقاتلين في داخلها. عمليًا؛ زجت المخيّمات؛ بمن فيها من مدنيين، في حروب منظّمة التحرير، والفصائل المقاتلة التابعة لها، أو المنشقة عنها على حدٍ سواء، في مواجهة المليشيات الطائفية اللبنانية، أو في حروب الفصائل في ما بينها.

وما إن انسحبت منظّمة التحرير من بيروت أولًا، على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي، ومن طرابلس ثانيًا؛ على يد الفصائل المنشقة والمدعومة من جيش نظام حافظ الأسد، حتّى تحوّل الأمن الذاتي للمخيّمات إلى أمنٍ فصائليٍ، وتحوّلت أحياء المخيّمات إلى مراكزٍ عسكريةٍ للفصائل المسلّحة، في مواجهة بعضها بعضًا، زاد من احتدامها الانقسام الفلسطيني، بين منظّمة التحرير والسلطة الفلسطينية بزعامة فتح من جهةٍ، وحماس والقوى المتحالفة معها من جهةٍ أخرى، ما وضع مخيّمات اللجوء في حالة توترٍ دائمٍ.

ونظرًا لانتفاء الدور المؤثر للسلاح الفلسطيني في لبنان في الصراع مع الاحتلال الصهيوني، ونظرًا إلى أنّ النتائج الفعلية لوجود هذا السلاح في المخيّمات كانت وبالًا خالصًا على اللاجئين، وبحكم أنّ هذا السلاح؛ في عز سطوته في لبنان، لم يساهم في تقديم أيّ إنجازٍ لللاجئين، لجهة تحصيل؛ ولو جزءٍ يسيرٍ من حقوقهم الطبيعية كبشر، وأخذًا بعين الاعتبار أنّ السلاح بلا مشروعٍ يصبح بندقية للإيجار، ها نحن أمام مجموعاتٍ مسلّحةٍ نمت على ضفاف الانقسام الفلسطيني، وتتخذ من المخيّمات وأحيائها مراكزَ عسكريةً، ومناطق نفوذٍ، تتصارع في محاولات توسيعها مجموعاتٌ يلجأ إليها المجرمون والفارون من العدالة، تستل اللحى والبنادق المأجورة في وجوه المدنيين العزل، وتحوّل المخيّمات إلى صندوق بريدٍ لتبادل الرسائل بين القوى الإقليمية، ممهورةً بدماء أبناء وبنات المخيّمات.

لقد كان الحري بمنظّمة التحرير الفلسطينية، وباقي الفصائل، أنّ تحيد المخيّمات عن الحروب، وكان عليها أنّ تجعل منها مساحاتٍ آمنةً، على ضيقها، زاهيةً زاخرةً بأنماط الإبداع الفلسطيني المشهود له في العلوم والثقافة والفنون كافّةً، وحتّى في الاقتصاد، حينها لأعادت هذه المخيّمات إنتاج الرواية الفلسطينية على حقيقتها التاريخية، ونشرتها في العالم في مواجهة الرواية الصهيونية، ولاحتفظت بتفاصيل وكلّية التراث الشعبي والوطني الفلسطيني، في مواجهة محاولات الصهاينة اغتصابه، إضافةً لاغتصابهم الأرض.

وبالرغم من كلّ هذا؛ يمثّل المخيّم بطاقة العودة، حافظوا على المخيّمات التي لا تزال تحتفظ بتلك الصناديق الصغيرة، التي تحتوي على مفاتيح حقّ العودة، ولا تساهموا مع من يعمل على محوها من الوجود، وبالتالي يعمل على طعن حقّ العودة وإهداره.